الحديث الخامس
۰.روى في الكافي بإسناده ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ ، عَنْ دُرُسْتَ۱عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ :«شَاءَ وَأَرَادَ ، وَلَمْ يُحِبَّ وَلَمْ يَرْضَ ؛ شَاءَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ إِلَا بِعِلْمِهِ ، وَأَرَادَ مِثْلَ ذلِكَ ، وَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُقَالَ : ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، وَلَمْ يَرْضَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ» .
هديّة :
يعني شاء اللّه تبارك وتعالى وجعل في العبد قدرته على الفعل والترك ، وأراد ما علم أنّ هذا يفعل باختياره في وقت كذا إيّاه من الخير والشرّ ، وهذا كذلك بعكسه . وله البداء في هذه الإرادة قبل الإمضاء لحكمه ، فيريد الخير ويحبّ ويرضى . ويريد الشرّ ولا يحبّ ولا يرضى . فإرادته سبحانه على الحتم لا يتعلّق إلّا بما يعلم صدوره عن العبد باختياره المتروك في طرفيه ، أو المغلوب المقلوب بغلبة إرادة اللّه من أحدهما إلى الآخر لمصلحة علمها اللّه .
وهذا معنى (شاء أن لا يكون شيء إلّا بعلمه وأراد مثل ذلك) والإشكال الناشئ هنا من أنّ ما يطابق الحكمة يرضى به سبحانه البتّة ؛ ففي كون ما يرضى به وما لا يرضى به مطابقا للحكمة تناقض لا محالة ، مدفوع بأنّه لا شكّ لنا في عدم المنافاة بين حكمة الصدور واللّا صدور ، وبين عدم الرضا به لنصّ المعصوم العاقل عن اللّه سبحانه وإن لم يكن وجهه معلوما لنا ، على أنّ العلم المحيط بجميع الحِكَم والمصالح عِلْمُه حَسْبُ ، وما اُوتي البشر من العلم إلّا قليلاً . ۲
وخلاصة الكلام : أنّ جميع المكالمات سؤالاً وجوابا ينتهي في هذا الباب إلى هذا الإشكال ولا مدفع له إلّا بما قلنا ، وثبت اعتقادنا عليه بعون اللّه تعالى وحسن توفيقه . وتوضيح الجواب : أنّه لا منافاة بين رضائه تعالى باعتبار تعلّقه بحكمته و أفعاله ، وبين عدم رضائه باعتبار تعلّقه بأفعال العباد . واللّه عليمٌ حكيم ، وهو لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون . ۳
قال برهان الفضلاء :
«شاء» في «شاء أن لا يكون شيء» مبتدأ ؛ لأنّه محكيّ ، و«أن لا يكون» خبر ، و«أن» مخفّفة عن المثقّلة ، أو مفسّرة عند من لم يشترط تقدّم الجملة ، وذهب إلى أنّ «أن» في و«آخر دعواهم أن الحمد للّه ربّ العالمين» مفسّرة ، و«لا يكون» على التقديرين مرفوع ، و«الباء» في «بعلمه» للسببيّة ، وكذا «وأراد» مبتدأ و«مثل ذلك» مرفوع وخبره ، فالمعنى معنى شاء أنّه لا يكون شيء إلّا بعلمه مع قدرته على الحيلولة بينه وبين فاعله المختار في الفعل والترك ، فقد يحول لحكمةٍ وقد لا يحول .
«ولم يحبّ أن يُقال : ثالث ثلاثة» كما قالت النصارى: إنّه سبحانه ذات لها صفتان قائمتان عليها موجودتان في نفسهما : إحداهما العلم ، والاُخرى الحياة .
وقال الفاضل الإسترابادي :
«شاء أن لا يكون شيء إلّا بعلمه وأراد مثل ذلك» المراد من العلم هنا نقوش اللّوح المحفوظ ، والمشيّة والإرادة والتقدير والقضاء كلّها نقوش اللوح المحفوظ ، والتفاوت بينها أنّ كلّ لاحق تفصيله ۴ أكثر من سابقه ، وتوقّف أفعال العباد على تلك الاُمور السبعة إمّا بالذات أو بجعل اللّه تعالى .
وتحقيق المقام : أنّ تحرّك القوى البدنيّة بأمر النفس الناطقة المخصوصة المتعلّقة به ليس من مقتضيات الطبيعة ، فيكون بجعل اللّه تعالى . وهنا احتمالان :
أحدهما : أنّه جعل اللّه بدنا مخصوصا مسخّرا لنفس مخصوصة بأن قال : كُن متحرّكا بأمرها ، ثمّ جعل ذلك موقوفا على الاُمور السبعة بأن قال : لا يكن شيء إلّا بعد السبعة .
وثانيهما : أنّ بهذه السبعة يجعل اللّه تعالى البدن مسخّرا لنفس مخصوصة كلّ يوم في أفعال مخصوصة ، وعلى التقديرين ظهر معنى قولهم عليهم السلام : «لا جبر ولا تفويض ، وبينهما منزلة أوسع ممّا بين السماء والأرض » . ۵ وسيجيء أنّه تعالى خلق الأشياء بالمشيئة ، وخلق المشيئة بنفسها .
والمراد أنّ هذه السبعة ومحلّها ـ أعني اللّوح المحفوظ ـ ليست موقوفة على مثلها وإلّا لزم التسلسل . ۶
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
«شاء أن لا يكون شيء إلّا بعلمه » أي شاء بالمشيئة الحتميّة أن لا يكون شيء إلّا بعلمه وعلى طباق ما في علمه بالنظام الأعلى وما هو الخير والأصلح ولوازمها «وأراد» بالإرادة الحتميّة «مثل ذلك ولم يحبّ» الشرور اللّازمة التابعة للخير والأصلح ، ك«أن يقال : ثالث ثلاثة» وأن يكفر به ولم يرض بها . ۷ انتهى .
كأنّ قصده من هذا البيان ما فصّلناه أوّلاً من عدم المنافاة بين رضائه سبحانه باعتبار تعلّقه بحكمة أفعاله ، وبين عدم رضائه باعتبار تعلّقه بأفعال العباد .
1.السند في الكافي المطبوع هكذا : «عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عليّ بن معبد ، عن درست بن أبي منصور» .
2.اقتباس من الآية ۸۵ من الإسراء (۱۷) .
3.اقتباس من الآية ۲۳ من الأنبياء (۲۱) .
4.في المصدر : «تفضيله» .
5.راجع: الكافي ، ج ۱ ، ص ۱۵۹ ، باب الجبر والقَدَر ... ، ح ۹ و ۱۱ .
6.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۲۸ .
7.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۴۸۸ .