هديّة :
«اللام» في (حكم لهم) للاستحقاق ، كما في قوله تعالى : «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»۱ و «لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ»۲ و «لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ»۳ و «لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»۴ .
وتوضيح السؤال : أنّ اللّه سبحانه بقدرته على خلقه جميع العباد سعيدا «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»۵ . قوله : هل أجبر الشقيّ على شقاوته والسعيد على سعادته ، أم ذلك باقتضاء الطبيعة واستعداد المادّة كما قالت القَدَريّة؟
وحاصل الجواب : أنّ مِنْ علمه تعالى ما هو خاصّ لم يطلع عليه أحدا من خلقه وهو سرّه ، فلا علم لأحدٍ على الباعث على محبّته سبحانه لمن أحبّه أو بغضه لمَن أبغضه ، ولو كان لقوله : (لا يقوم له أحد) وسع الاستثناء ، فالمعنى إلّا الحجّة المعصوم العاقل عن اللّه سبحانه .
(فلمّا حكم بذلك) بسعادة أهل الطاعة وشقاء أهل المعصيّة أعطى من أحبّه ـ بعد جعله مختارا في الفعل والترك ـ أن يختار الفعل باختياره وبتوفيق اللّه سبحانه ، كما يختار من أبغضه الترك باختياره مخذولاً بالخذلان ، فلذا لا يثقل العمل والطاعة على من أحبّه بخلاف مَن أبغضه .
في بعض النسخ هكذا : «فواقعوا معصيتهم على ما سبق لهم في علمه» بزيادة «معصيتهم على» . وفي آخر : «فوافقوا ما سبق لهم في علمه» من الموافقة بالفاء والقاف .
و«القدرة» في (ولم يقدروا) عبارة عن الاستطاعة وكماليّة القدرة . ومعنى التعليل أنّ علمه الأزلي بأنّ ما يختاره المختار باختياره بالتوفيق أو الخذلان ماذا من الطرفين لن ينقلب ولن يتخلّف معلومه ، والعلم عند اللّه وأهل ذكره عليهم السلام .
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى :
معنى السؤال : أنّ أيّ شيء صار سببا للحكم العلمي الأزلي بعذاب أهل الشقاء ؟
ومعنى الجواب : أنّ حكمه العلمي الأزلي بعذاب أهل المعصية أو بثواب أهل الطاعة حقّ ليس موقوفا اتّصافه بالحقّيّة على وجود أحد ولِلحوق صفة به . ولا يقاس علمه تعالى المتعلّق بالغيب والشهادة بعلم المخلوق وهو علمٌ حادث تابعٌ للمعلوم وليس بعلم الغيب ، فكما لا يجوز أن يُقال : إنّ علمه تعالى علّة لمعلومه لا يجوز أن يُقال تابع للمعلوم .
«فلمّا حكم بذلك » أي بعدم القيام المفهوم من «لا يقوم» و«الباء» للملابسة لا صلة للحكم .
والإضافة في «محبّته» إضافة المصدر إلى المفعول ، أي محبّة اللّه . والمراد ب«القوّة» هنا الأمر الدالّ والعلامة ، وهو خلق الماء العذب والماء الملح الاُجاج .
«وهب لأهل المعصية» من باب مجاز المشاكلة . يعني فلمّا حكم بعلمه ـ وحُكْمُه غير موقوف على وجود أحد ولا لحوق صفة ـ وهب لأهل الطاعة علامةً دالّة على نجاتهم ، وأبعد عنهم ثقل العمل بالطاعة بقدر تفاوت مراتبهم في المحبّة التي كلّ منهم متّصفٌ في علمه سبحانه بقَدْرٍ منها ، ووهب لأهل المعصية علامة دالّة على هلاكهم .
وفي بعض النسخ المعتبرة : «على معصيتهم» مكان «معصيته» .
«ومنعهم» أي لم يعطهم استطاعة قبول الأحكام الدينيّة من اللّه تعالى .
«فواقعوا ما سبق لهم» أي أوقعوا .
«ولم يقدّروا» على المعلوم من التفعيل ؛ أي ولم يصيّروا أنفسهم راغبةً في الإتيان بما يُنجيهم من العذاب .
«وهو سرّه» يعني العلم بوجه خلق السعادة والشقاء قبل خلق الخلق ، أو وجهه سرّ لا يعلمه إلّا اللّه . أو المعنى : إلّا اللّه وخزنة علمه المعصومون . انتهى .
الأولى كون الإضافة في «محبّته» إضافة المصدر إلى الفاعل مع التساوي في ترتّب الفائدة ؛ إذ السرّ المسؤول عنه إنّما هو سبب الحكم العلمي لأجل المحبّة وعدمها قبل الخلق . على أنّ منشأ محبّة العبد محبّة المعبود تعالى ، وأوّل التالي مؤيّد . ونِعْمَ ما قيل :
گرت عزّت دهد رو ناز مى كنو گرنه چشم حسرت باز مى كن
وقال الفاضل الإسترابادي رحمه الله :
«فلمّا حكم بذلك وهب» إلى آخره . المراد حُكْمه تعالى في التكليف الأوّل يوم الميثاق ۶ قبل تعلّق الأرواح بالأبدان ؛ حيث ظهرت ذلك اليوم الطاعة والمعصية ، فقال ـ جلّ وعلا ـ مشيرا إلى من ظهرت ذلك اليوم منه الطاعة : هؤلاء للجنّة ، ومشيرا إلى من ظهرت منه المعصية : هؤلاء للنار ولا اُبالي . فلمّا علم اللّه تعالى أنّ أفعال الأرواح بعد تعلّقهم بالأبدان موافقة لفعلهم يوم الميثاق مهّد لكلّ روح شروطا تناسب ما في طبعه من السعادة والشقاوة .
«منعهم إطاقة القبول» معناه أنّه لم يشأ ولم يقدّر قبولهم ، ومن المعلوم أنّ المشيئة والتقدير شرطان في وجود الحوادث ـ كما مرّ ـ وإن لم يكونا من الأسباب .
وأمّا قوله : «ولم يقدروا أن يأتوا» فمعناه ـ واللّه أعلم ـ أنّهم لم يقدروا على قلب حقائقهم بأن يجعلوا أرواحهم من جنس أرواح السعداء . وسيجيء في اُصول هذا الكتاب : لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء .
«لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق» تعليل لقوله : «فوافقوا ما سبقوا لهم في علمه » .
وهنا فائدتان :
إحداهما : أنّ الجمادات إذا خُلّيت وأنفسها كانت في أمكنة مخصوصة مناسبة لطبعها ، فكذلك الأرواح إذا خُلّيت وإرادتها اختارت الطاعة أو المعصية ، فمقتضى الطبع قسمان .
وثانيتهما : إنّ لعلمه تعالى بأنّ بعض الأرواح يختار المعصية ما خلق الأشياء السبعة التي هي شرط الطاعة ، وخلق السبعة التي هي شرط المعصية ولا يلزم الجبر ؛ لأنّ التمهيد وقع على وفق اختياره . وبعبارة اُخرى : الجبر هو خلق الفعل في العباد ، أو خلق ما يخلق الفعل فيهم ، كالميول القسريّة . والاضطرار جاء بمعنى الجبر ، وجاء بمعنى الإكراه وهو أن يفعل الإنسان بإرادته فعلاً لا يحبّه بخوف ونحوه . ۷ انتهى .
ومن المعلوم أنّ صرف طائفة من العمر في مطالعة المصنّفات في اُصول الفلاسفة لضرّه أكثر من نفعه ، ومن ضرّه ظنّ مثل الفاضل من أصحابنا أنّه لو لم يتمسّك بحبل تلك الاُصول لما أمكنه توجيه طائفة من أحاديثهم عليهم السلام .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
لمّا سأل السائل عمّا يستند إليه حكم اللّه لعذاب أهل الشقاء ، وأنّه لابدّ أن يكون لحوق الشقاء لهم مقدّما على حكم اللّه في علمه حتّى يترتّب عليه ذلك الحكم ، وعمّا يستند إليه لحوق الشقاء سابقا على حكمه في علمه ، وأنّه لا شيء قبل علمه يستند إليه لحوق الشقاء لهم .
أجاب عليه السلام : بأنّ حكم اللّه لا يقوم له أحد من خلقه بموجبه وبيان سببه ، أو بما يليق به ، وبأن يكون بيانا بسببه ولا بإدراكه وفهمه ، وما هو كذلك فحقيقٌ بأن لا يتعرّض لبيانه ، والسّكوت عمّا يعجز اللّسان عن بيانه أولى من التعرّض للبيان .
ثمّ بيّن بقوله : «فلمّا حكم بذلك» أنّ حكمه بذلك في علمه يترتّب عليه إعطاء المعرفة لأهل السعادة وأهل محبّته ، ووَضْع ثقل العمل عنهم بثبوت ما هم أهله ، وإعطاء أهل الشقاء والمعصية القوّة على معصيتهم لما علمه فيهم من الشقاء .
«ومنعهم» ولم يعطهم «إطاقة القبول منهم، فواقعوا ما سبق لهم في علمه» من السعادة والشقاوة وتوابعهما «ولم يقدروا» على الإتيان بحال لهم يُنجيهم من عذابه ؛ لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق والوقوع .
«وهو معنى شاء ما شاء » أي ما ذكرناه من أنّه لا يقوم بحكم اللّه أحد من خلقه بحقّه معنى «شاء ما شاء» «وهو سرّه» الذي لم يطّلع عليه أحد من خلقه . ۸
وقال بعض المعاصرين :
ما قدّر اللّه سبحانه على الخلق الكفر والعصيان من نفسه ، بل باقتضاء أعيانهم وطلبهم بألسنة استعداداتهم أن يجعلهم كافرا أو عاصيا ، فما كانوا في علمه تعالى ظهروا في وجوداتهم العينيّة فليس للحقّ إلّا إفاضة الوجود عليهم والحكم لهم وعليهم ، فلا يحمدوا إلّا أنفسهم ، ولا يذمّوا إلّا أنفسهم ولا يبقى للحقّ إلّا حمد إفاضة الوجود ؛ لأنّ ذلك له لا لهم . ۹ انتهى .
1.أورد في آيات متعدّدة منها في البقرة (۲) : ۱۰ و ۱۷۴ .
2.البقرة (۲) : ۱۰۴ ؛ المجادلة (۵۸) : ۴ .
3.الأنفال (۸) : ۱۴ .
4.الرعد (۱۳) : ۲۵ .
5.النحل (۱۶) : ۹ .
6.في «ب، ج»: «قبل الميثاق».
7.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۲۹ .
8.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۴۹۱ ـ ۴۹۲ .
9.الوافي، ج ۱، ص ۵۲۹ ـ ۵۳۰.