(وإنّ الآخرة قد ترحّلت مُقبِلة) .
بعد التنبيه على سرعة فناء الدنيا وإدبارها نبّه على سرعة لحوق الآخرة وإقبالها ، ولما كانت الآخرة عبارة عن الدار الجامعة لأحوال كلّ شخص من سعادة أو شقاوة أو ألم أو راحة، وكان تقضّي العمر والدنيا موجباً لقرب الموت يوماً فيوماً، والوصول إلى تلك الدار والورود على ما فيها من خيرٍ أو شرٍّ، حسن إطلاق الترحّل والإقبال عليها مجازاً ، والحال أنّ المنقضية من الأحوال يُطلق عليها اسم الإدبار، وما يتوقّع منها يطلق عليه اسم الإقبال .
(ولكلّ واحدةٍ) منهما (بنون).
أطلق اسم الابن للخلق بالنسبة إليهما، واسم الأب لهما استعارة، ووجّهت بأنّ الإبن لما كان من شأنه الميل إلى الأب إمّا بالطبع أو بتصوّر النفع، وكان الخلق منهم من يريد الدنيا لما يتوهّم من لذّة وخير فيها ، ومنهم من يريد الآخرة لما ذكر، ويميل كلّ منهما إلى مراده، شبّههم بالابن، واستعار لفظه لهم والأب لهما بتلك المشابهة .
(فكونوا من أبناء الآخرة ...) حثّ وترغيب على الإعراض عن الدنيا وحطامها لفنائها، والإقبال على الآخرة ومثوباتها وما يتوصّل به إليها لبقائها ودوامها .
(فإنّ اليوم) ؛ يعني مدّة الحياة في الدنيا (عملٌ ولا حساب) أي يوم عملٍ، أو وقت عملٍ، و«اليوم» اسم «إنّ» و«عمل» خبره .
وقيل: يحتمل أن يكون اسم «إنّ» ضمير الشأن، و«اليوم عملٌ» مبتدأ وخبر، ۱ أو الجملة خبر «إنّ»، وقس عليه قوله : (وإنّ غداً) أي بعد الموت (حسابٌ ولا عمل) .
قال الجوهري : «حَسَبْتُهُ أَحسبُه ـ بالضمّ ـ حَسْباً وحساباً وحُسباناً وحسابة، إذا عددته» . ۲
(إنّما بدءُ وقوع الفتن) .
البَدْء، بالفتح: مصدر قولك: بدأت بالشيء بَدْءاً، أي ابتدأت به، وبدأت الشيء: فعلته، ابتداءً .
ويحتمل أن يقرأ بالواو من قولهم : «بدأ الأمرُ بُدوّاً» مثل قعد قعوداً ؛ أي ظهر . فعلى الأوّل إضافة المصدر إلى المفعول ، وعلى الثاني إلى الفاعل .