551
البضاعة المزجاة المجلد الأول

(وإنّ الآخرة قد ترحّلت مُقبِلة) .
بعد التنبيه على سرعة فناء الدنيا وإدبارها نبّه على سرعة لحوق الآخرة وإقبالها ، ولما كانت الآخرة عبارة عن الدار الجامعة لأحوال كلّ شخص من سعادة أو شقاوة أو ألم أو راحة، وكان تقضّي العمر والدنيا موجباً لقرب الموت يوماً فيوماً، والوصول إلى تلك الدار والورود على ما فيها من خيرٍ أو شرٍّ، حسن إطلاق الترحّل والإقبال عليها مجازاً ، والحال أنّ المنقضية من الأحوال يُطلق عليها اسم الإدبار، وما يتوقّع منها يطلق عليه اسم الإقبال .
(ولكلّ واحدةٍ) منهما (بنون).
أطلق اسم الابن للخلق بالنسبة إليهما، واسم الأب لهما استعارة، ووجّهت بأنّ الإبن لما كان من شأنه الميل إلى الأب إمّا بالطبع أو بتصوّر النفع، وكان الخلق منهم من يريد الدنيا لما يتوهّم من لذّة وخير فيها ، ومنهم من يريد الآخرة لما ذكر، ويميل كلّ منهما إلى مراده، شبّههم بالابن، واستعار لفظه لهم والأب لهما بتلك المشابهة .
(فكونوا من أبناء الآخرة ...) حثّ وترغيب على الإعراض عن الدنيا وحطامها لفنائها، والإقبال على الآخرة ومثوباتها وما يتوصّل به إليها لبقائها ودوامها .
(فإنّ اليوم) ؛ يعني مدّة الحياة في الدنيا (عملٌ ولا حساب) أي يوم عملٍ، أو وقت عملٍ، و«اليوم» اسم «إنّ» و«عمل» خبره .
وقيل: يحتمل أن يكون اسم «إنّ» ضمير الشأن، و«اليوم عملٌ» مبتدأ وخبر، ۱ أو الجملة خبر «إنّ»، وقس عليه قوله : (وإنّ غداً) أي بعد الموت (حسابٌ ولا عمل) .
قال الجوهري : «حَسَبْتُهُ أَحسبُه ـ بالضمّ ـ حَسْباً وحساباً وحُسباناً وحسابة، إذا عددته» . ۲
(إنّما بدءُ وقوع الفتن) .
البَدْء، بالفتح: مصدر قولك: بدأت بالشيء بَدْءاً، أي ابتدأت به، وبدأت الشيء: فعلته، ابتداءً .
ويحتمل أن يقرأ بالواو من قولهم : «بدأ الأمرُ بُدوّاً» مثل قعد قعوداً ؛ أي ظهر . فعلى الأوّل إضافة المصدر إلى المفعول ، وعلى الثاني إلى الفاعل .

1.قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج ۱۱ ، ص ۳۶۹ .

2.الصحاح ، ج ۱ ، ص ۱۰۹ (حسب) .


البضاعة المزجاة المجلد الأول
550

وقوله : (إنّ أخوفَ) اسم تفضيل للمفعول كأعذر وأشهر (ما أخاف عليكم خلّتان) بفتح الخاء، أي خصلتان.
قيل: هما أعظم مهالك الإنسان، فلذلك كان الخوف منهما أشدّ وأزيد، ولما كان عليه السلام والمتولّي لإصلاح حال الخلق في اُمور معاشهم ومعادهم، وكان صلاحهم منوطاً بهمّته العالية نسب الخوف عليهم إلى نفسه . ۱
(اتّباع الهوى). هو في الأصل العشق، وإرادة النفس ، وقد شاع استعماله في ميل النفس ورغبتها في مستلذّاتها المتعلّقة بالدنيا .
(وطول الأمل) .
في القاموس: «الأمل، كجبل ونجم وشبر: الرجاء»، ۲ وشاع استعماله في تمنّى ما لا ينبغي ويضرّ بالآخرة وتذكّر الموت والتهيّئ لأسبابه .
(أمّا اتّباع الهوى فيصدّ) بضمّ الصاد، أي يصرف ويمنع (عن الحقّ) ؛ وهو ظاهر .
وقوله : (فيُنسي الآخرة) يحتمل كونه إفعالاً من النسأ بهمز اللام، وهو التأخير، أي يؤخّر أمر الآخرة والعمل لها . قال الجوهري : «نَسَأتُ الشيء نَسْئاً: أخّرته ، وكذلك أنسأته»؛ ۳ أو من النسيان بالكسر، وهو خلاف الذكر والحفظ .
وقوله : (قد ترحّلت مُدبِرة) . الترحّل: الانتقال ، والإدبار: ضدّ الإقبال .
وتحقيق ذلك ما أفاده بعض الشارحين من أنّه إشارة إلى تقضّي الأحوال الحاضرة بالنسبة إلى كلّ شخص من صحّةٍ وشباب وجاهٍ ومالٍ وكلّ ما يكون سبباً لصلاح حاله؛ فإنّ كلّ ذلك أجزاء الدُّنيا لدنوّها منه ، ولما كانت هذه الاُمور أبداً في التغيّر والتقضّي المقتضي لمفارقته لها وبُعدها عنه شيئاً فشيئاً، لا جرم حسن إطلاق اسم الترحّل والإدبار على تقضّيها وبُعدها استعارة تشبيهاً لها بالحيوان في إدبارها ، والغرض هو الحثّ على ترك الركون إليها والعكوف عليها وصرف العمر فيها . ۴

1.قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج ۱۱ ، ص ۳۶۸ .

2.القاموس المحيط ، ج ۳ ، ص ۳۳۰ (أمل) .

3.الصحاح ، ج ۱ ، ص ۷۶ (نسأ) .

4.قاله المحقّق المازندراني رحمه اللهفي شرحه ، ج ۱۱ ، ص ۳۶۹ .

  • نام منبع :
    البضاعة المزجاة المجلد الأول
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : احمدی جلفایی، حمید
    تعداد جلد :
    3
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 110553
صفحه از 630
پرینت  ارسال به