103
البضاعة المزجاة المجلد الثانی

ثمّ إنّ الصور التي تركّبها القوّة المتخيّلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس، حتّى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركّبتها القوّة المتخيّلة تفاوت إلّا في الكلّيّة والجزئيّة، كانت الرؤيا غنيّة عن التعبير، وإن لم تكن شديدة المناسبة، إلّا أنّه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه مّا، كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع من الصور التي في الخيال إلى المعنى الذي صوّرته المتخيّلة بتلك الصور .
وأمّا إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين تلك الصور مناسبة أصلاً، فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام . ولهذا قالوا : لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب؛ لأنّ قوّتهما المتخيّلة قد تعوّدت الانتقالات الكاذبة الباطلة .
ولا يخفى أنّ هذا رجمٌ بالغيب، وتقوّل بالظنّ والريب ، ولم يستند إلى دليل وبرهان، ولا إلى مشاهدة ولا عيان، ولا إلى وحي إلهي، مع ابتنائه على العقول والنفوس الفلكيّة اللتين نفتهما الشريعة المقدّسة .
وقال المازري في شرح قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «الرؤيا من اللّه ، والحُلُم من الشيطان» ۱ : مذهب أهل السنّة في حقيقة الرؤيا أنّ اللّه تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات لا يخلقها في قلب اليقظان، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ يفعل ما يشاء، لا يمنعه النوم واليقظة ؛ فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنّه جعلها عَلَما على أمرٍ آخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر ، فأكثر ما فيه أنّه اعتقد أمرا على خلاف ما هو به، فيكون ذلك الاعتقاد عَلَما على غيره، كما يكون خلق اللّه تعالى الغيم عَلَما للطير ، والجميع خلق اللّه تعالى، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَما على ما يسرّ بغير حضرة الشيطان، وخلق ما هو عَلَمٌ على ما يضرّ بحضرة الشيطان، فنسب إلى الشيطان مجازا؛ لحضوره عندها، وإن كان لا فعل له حقيقةً . ۲

1.عدّة الداعي ، ص ۲۶۲ ؛ بحار الأنوار ، ج ۵۸ ، ص ۱۹۳ ، ح ۷۲ (فيه عن أبي قتادة) ؛ و ص ۱۹۱ (عن كتاب التبصرة لعليّ بن بابويه) ؛ مسند أحمد ، ج ۵ ، ص ۲۹۶ و ۳۰۵ ؛ سنن الدارمي ، ج ۲ ، ص ۱۲۴ ؛ صحيح البخاري ، ج ۴ ، ص ۹۵ ؛ و ج ۷ ، ص ۲۵ ؛ و ج ۸ ، ص ۷۲ ؛ صحيح مسلم ، ج ۷ ، ص ۵۰ ؛ سنن ابن ماجة ، ج ۲ ، ص ۱۲۸۶ ، ح ۳۹۰۹ .

2.اُنظر : فتح الباري ، ج ۱۲ ، ص ۳۰۹ ؛ عمدة القاري ، ج ۱ ، ص ۶۰ ؛ و ج ۲۱، ص ۲۷۰ ؛ فيض القدير ، ج ۴ ، ص ۵۹ ؛ تفسير الآلوسي ، ج ۱۲ ، ص ۱۸۱ .


البضاعة المزجاة المجلد الثانی
102

ثمّ قال :
ولمّا كان أمر الرؤيا وصدقها وكذبها ممّا اختلفت فيه أقاويل الناس، فلا بأس أن نذكر هاهنا بعض أقوال المتكلِّمين والحكماء، ثمّ نبيّن ما ظهر لنا فيه من أخبار أئمّة الأنام عليهم السلام .
فأمّا الحكماء فقد بنوا ذلك على ما أسّسوه من انطباع صور الجزئيّات في النفوس المنطبعة الفلكيّة، وصور الكلّيّات في العقول المجرّدة، وقالوا : إنّ النفس في حالة النوم قد تتّصل بتلك المبادئ العالية، فتحصل لها بعض العلوم الحقّة الواقعيّة، فهذه هي الرؤيا الصادقة .
وقال بعضهم : إنّ للنفوس الإنسانيّة اطّلاعا على الغيب في حال المنام، وليس لأحد من الناس إلّا وقد جرّب ذلك من نفسه تجاربا أوجبته التصديق، وليس ذلك بسبب الفكر؛ فإنّ الفكر [في] حال اليقظة التي هو فيها أمكنُ يَقْصُر عن تحصيل مثل ذلك، فكيف في حال النوم؟! بل بسبب أنّ النفوس الإنسانيّة لها مناسبة الجنسيّة إلى المبادئ العالية المنتقشة بجميع ما كان وما سيكون وما هو كائن في الحال، ولها أن تتّصل بها اتّصالاً روحانيّا، وأن تنتقش بما هو مرتسم فيها ؛ لأنّ اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعُها عن الاشتغال بغير تلك الأفاعيل، وليس لنا سبيل إلى إزالة عوائق النفس بالكلّيّة عن الانتقاش بما في المبادئ العالية ؛ لأنّ أحد العائقَين هو اشتغال النفس بالبدن، ولا يمكن لنا إزالة هذا العائق بالكلّيّة ما دام البدن صالحا لتدبيرها ، إلّا أنّه قد يسكن أحد الشاغلين في حالة النوم؛ فإنّ الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرائين، وينصبّ إلى الحواسّ الظاهرة حالة الانتشار، ويحصل الإدراك بها ، وهذه الحالة هي اليقظة، فتشتغل النفس بتلك الإدراكات .
فإذا انحبس الروح إلى الباطن، تعطّلت هذه الحواسّ، وهذه الحالة هي النوم، وبتعطّلها يخفّ أحد شواغل النفس عن الاتّصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها، فيتّصل حينئذٍ بتلك المبادئ اتّصالاً روحانيّا، ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ ممّا استعدّت هي لأن تكون منتقشة به، كالمرايا إذا حُوذي بعضها ببعض ما يتّسع له ممّا انتقش في البعض الآخر، والقوّة المتخيّلة جُبّلت محاكية لما يرد عليها، فتحاكى تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئيّة مناسبة لها، ثمّ ترتسم الصور الجزئيّة في الحسّ المشترك ، فتصير مشاهدة ، وهذه هي الرؤيا الصادقة .

  • نام منبع :
    البضاعة المزجاة المجلد الثانی
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : احمدی جلفایی، حمید
    تعداد جلد :
    3
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 189973
صفحه از 624
پرینت  ارسال به