ثمّ إنّ الصور التي تركّبها القوّة المتخيّلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس، حتّى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركّبتها القوّة المتخيّلة تفاوت إلّا في الكلّيّة والجزئيّة، كانت الرؤيا غنيّة عن التعبير، وإن لم تكن شديدة المناسبة، إلّا أنّه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه مّا، كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع من الصور التي في الخيال إلى المعنى الذي صوّرته المتخيّلة بتلك الصور .
وأمّا إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين تلك الصور مناسبة أصلاً، فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام . ولهذا قالوا : لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب؛ لأنّ قوّتهما المتخيّلة قد تعوّدت الانتقالات الكاذبة الباطلة .
ولا يخفى أنّ هذا رجمٌ بالغيب، وتقوّل بالظنّ والريب ، ولم يستند إلى دليل وبرهان، ولا إلى مشاهدة ولا عيان، ولا إلى وحي إلهي، مع ابتنائه على العقول والنفوس الفلكيّة اللتين نفتهما الشريعة المقدّسة .
وقال المازري في شرح قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «الرؤيا من اللّه ، والحُلُم من الشيطان» ۱ : مذهب أهل السنّة في حقيقة الرؤيا أنّ اللّه تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات لا يخلقها في قلب اليقظان، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ يفعل ما يشاء، لا يمنعه النوم واليقظة ؛ فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنّه جعلها عَلَما على أمرٍ آخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر ، فأكثر ما فيه أنّه اعتقد أمرا على خلاف ما هو به، فيكون ذلك الاعتقاد عَلَما على غيره، كما يكون خلق اللّه تعالى الغيم عَلَما للطير ، والجميع خلق اللّه تعالى، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَما على ما يسرّ بغير حضرة الشيطان، وخلق ما هو عَلَمٌ على ما يضرّ بحضرة الشيطان، فنسب إلى الشيطان مجازا؛ لحضوره عندها، وإن كان لا فعل له حقيقةً . ۲
1.عدّة الداعي ، ص ۲۶۲ ؛ بحار الأنوار ، ج ۵۸ ، ص ۱۹۳ ، ح ۷۲ (فيه عن أبي قتادة) ؛ و ص ۱۹۱ (عن كتاب التبصرة لعليّ بن بابويه) ؛ مسند أحمد ، ج ۵ ، ص ۲۹۶ و ۳۰۵ ؛ سنن الدارمي ، ج ۲ ، ص ۱۲۴ ؛ صحيح البخاري ، ج ۴ ، ص ۹۵ ؛ و ج ۷ ، ص ۲۵ ؛ و ج ۸ ، ص ۷۲ ؛ صحيح مسلم ، ج ۷ ، ص ۵۰ ؛ سنن ابن ماجة ، ج ۲ ، ص ۱۲۸۶ ، ح ۳۹۰۹ .
2.اُنظر : فتح الباري ، ج ۱۲ ، ص ۳۰۹ ؛ عمدة القاري ، ج ۱ ، ص ۶۰ ؛ و ج ۲۱، ص ۲۷۰ ؛ فيض القدير ، ج ۴ ، ص ۵۹ ؛ تفسير الآلوسي ، ج ۱۲ ، ص ۱۸۱ .