105
البضاعة المزجاة المجلد الثانی

الاعتمادات ما يولد في الاعتقادات ، ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل، ما تولّد فيه شيء من الاعتقادات .
وقد بيّن ذلك، وشرح في مواضع كثيرة ، والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداءً من غير سبب أجناس الاعتقادات، ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقادا؛ لأنّ أكثر اعتقاد النائم جهل، وتناول الشيء على خلاف ما هو به؛ لأنّه يعتقد أنّه يرى ويمشي وأنّه راكب وعلى صفات كثيرة ، وكلّ ذلك على خلاف ما هو به، وهو تعالى لا يفعل الجهل، فلم يبق إلّا أنّ الاعتقادات كلّها من جهة النائم .
وقد ذكر في المقالات : أنّ المعروف بصالح قُبّة كان يذهب إلى أنّ ما يراه النائم في منامه على الحقيقة، وهذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائيّة ؛ لأنّ النائم يرى أنّ رأسه مقطوع، وأنّه قد مات، وأنّه قد صعد إلى السماء ، ونحن نعلم ضرورةً خلاف ذلك كلّه ، وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنّه ماء، وفي المُردي ۱ إذا كان في الماء أنّه مكسور، وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس، وإلاّ جاز ذلك في النائم، وهو من الكمال أبعد ، وإلى النقص أقرب .
وينبغي أن يقسم ما يتخيّل النائم أنّه يراه إلى أقسام ثلاثة : منها ما يكون من غير سبب يقتضيه، ولا داعٍ يدعو إليه اعتقادا مبتدءا .
ومنها ما يكون من وسواس الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاما خفيّا يتضمّن أشياء مخصوصة، فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنّه يراه، فقد نجد كثيرا من النيام يسمعون حديث من يتحدّث بالقرب منهم، فيعتقدون أنّهم يرون ذلك الحديث في منامهم .
ومنها ما يكون سببه والداعي إليه خاطرا يفعله اللّه تعالى، أو يأمر بعض الملائكة بفعله ، ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع، فيعتقد النائم أيضا ما يتضمّن ذلك الكلام، والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدِّين يجب أن تكون إلى هذا الوجه مصروفة ، كما أنّ ما يقتضي الشرّ منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة .

1.في الحاشية: «رَدَى بحجر: رماه به. وهو المردي . والمُردي، بالضمّ و الشدّ: خشبة تدفع بها السفينة» . القاموس المحيط ، ج ۴ ، ص ۳۳۳ و ۳۳۴ (ردي) .


البضاعة المزجاة المجلد الثانی
104

وقال محيي السنّة : «ليس كلّ ما يراه الإنسان صحيحا ويجوز تعبيره ، بل الصحيح ما كان من اللّه يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة اُمّ الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها، وهي على أنواع : قد تكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أويُريه ما يحزنه، وله مكائد يحزن بها بني آدم، كما قال تعالى : «إِنَّمَا النَّجْوى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا»۱ ، ومن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل فلا يكون له تأويل . وقد يكون من حديث النفس كما يكون في أمرٍ أو حرفةٍ يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه ونحوه . وقد يكون من مزاج الطبيعة ، كمن غلب عليه الدم يرى الفصد والحجامة والحمرة والرعاف والرياحين والمزامير والنشاط ونحوه ، ومَن غلب عليه الصفراء يرى النار والشمع والسراج والأشياء الصُّفر والطيران في الهواء ونحوه ، ومَن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والسواد والأشياء السود وصيد الوحش والأهوال والأموات والقبور والمواضع الخربة وكونه في مضيق لا منفذ له أو تحت ثقل ونحوه ، ومَن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والأنداء والثلج والوحل، فلا تأويل لشيء منها .
وقال السيّد المرتضى رحمه الله في كتاب الغرر والدرر في جواب سائل سأله : ما القول في المنامات؛ أ صحيحة هي أم باطلة ؟ ومِن فِعل مَن هي ؟ وما وجه صحّتها في الأكثر ؟ وما وجه الإنزال عند المباشرة في المنام ؟ وإن كان فيها صحيح وباطل، فما السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟
الجواب : اعلم أنّ النائم غير كامل العقل ؛ لأنّ النوم ضربٌ من السهو ، والسهو ينفي العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة؛ لنقصان عقله وفقد علومه . وجميع المنامات إنّما هي اعتقادات يبتدأ بها النائم في نفسه، ولا يجوز أن يكون من فعل غيره فيه؛ لأنّ من عداه من المحدّثين ـ سواء كانوا بَشَرا، أو ملائكة، أو جنّا ـ أجسام، والجسم لا يقدر أن يفعل في غيره اعتقادا بل ابتداءً ، ولا شيئا من الأجناس على هذا الوجه ، وإنّما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء .
وإنّما قلنا: إنّه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولّدا ؛ لأنّ الذي يُعدِّي الفعل من محلّ القدرة إلى غيرها من الأسباب إنّما هو الاعتمادات، وليس في جنس

1.المجادلة (۵۸) : ۱۰ .

  • نام منبع :
    البضاعة المزجاة المجلد الثانی
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : احمدی جلفایی، حمید
    تعداد جلد :
    3
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 189930
صفحه از 624
پرینت  ارسال به