45
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

ومثله في الكشّاف ، وزيد فيه : «لأنّه مُولى أعظم النِّعم ، فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع». ۱
أقول : لا شكّ في أنّه تعالى مُولى أعظم النِّعم ، وأنّه حقيقٌ بأقصى غاية الخضوع ، ولكنّ الكلام في أنّه هل هو معنى العبادة ومناط تحقّقها ، أم معناها أعمّ من ذلك ؟ ولم يذكر أهل اللغة ـ الذين كتبهم متداولة ـ لها معنى ، والشارع استعمل ما اشتقّ منها مرّة في تعظيم المشركين لأصنامهم وتقريب القربان لأجلها ، ومرّة في اتّباع الهوى والشيطان ، وعهِدَ سبحانه إلى العباد بوساطة السفراء والأنبياء أن لا يعبدوا الشيطان ، وأمر بقصر العبادة له تعالى ، ونهى عن اتّخاذ معبود سواه ، كقوله تعالى : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» ، ۲ وقوله تعالى : «أَلَا نَعْبُدَ إِلَا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْـ?ا»۳ ، وقوله تعالى : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـبَنِى ءَادَمَ أَن لَا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَـنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِى هَـذَا صِرَ طٌ مُّسْتَقِيمٌ »۴ ، وقوله تعالى : «وَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَ لَا يَنفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَـؤُلَاءِ شُفَعَـؤُنَا عِندَ اللَّهِ»۵ ، وقوله تعالى حكايةً عن عَبَدة الأوثان : «لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـنُ مَا عَبَدْنَـهُم»۶ ، وقوله تعالى : «أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ»۷ إلى غير ذلك .
ومقتضى كلام هؤلاء الأعلام أنّ أقصى غاية الخضوع هو المناط في تحقّقها ، وهو المختصّ باللّه تعالى ، وأنّ التوبيخات التي وردت على الإطاعة والاتّباع للشيطان والهوى إنّما هي إذا كان اتّباعا على ذلك الحدّ من الخضوع ، ولو كان دون الأقصى فليس بعبادة وإن كان مذموما على بعض الوجوه .
وهذا المعنى ليس في كتب اللغة المتداولة ، ولا هو منقولاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، ولعلّ الدليل على ذلك ـ كما يومي إليه كلامهم ـ حكم العقل باختصاص أقصى غاية الخضوع باللّه ، وعدم جريان حكم الإشراك على إيقاع ما عداه

1.الكشّاف ، ج ۱ ، ص ۶۲ .

2.الفاتحة (۱) : ۵ .

3.آل عمران (۳) : ۶۴ .

4.يس (۳۶) : ۶۰ ـ ۶۱ .

5.يونس (۱۰) : ۱۸ .

6.الزخرف (۴۳) : ۲۰ .

7.الصافّات : ۹۵.


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
44

اللّهمَّ إلّا أن يُقال : إنّ الحمد على الصفات الذاتيّة مدرجٌ في قوله عليه السلام : «بكلّ ما حمده به أدنى ملائكته إليه ...» إلى آخره .
والغرض فيما بعدَ ثمّ استغراقُ النِّعم المحمود عليها ـ سواءً كانت واصلةً إلى الحامد أو غير الحامد ـ لا استغراق مطلق المحمود عليه .
وليعلم أنّ كلّ فعلٍ منه تعالى محمودٌ عليه ؛ لأنّ أصل الإيجاد الذي هو بحرٌ فراتٌ سائغٌ شرابه نعمةٌ جليلة، تشعّبت منها عامّة أنهار النِّعم والآلام وإن كانت في عداد الضرر ، إلّا أنّها على المؤمن ممّا يرفع اللّه به شأنه ، أو يدفع به ما شانَه ، كسقي الطبيب الشفيق الأدوية المرّة البَشِعَة ۱ لحفظ الصحّة أو إزالة المرض ؛ فهي إذَن نعمة.
وأمّا آلآم الكفّار فهي تفريح للمؤمن وشفاء لغيظه ؛ ولذا قال قدوة العارفين أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة من خطب نهج البلاغة : «نَحْمَدُه على ما أخَذَ وأعطى ، وعلى ما أبْلى وابْتَلى» ۲ .
وفي خطبةٍ اُخرى : «أحْمَدُ اللّهَ على ما قَضى من أمْرٍ ، وقَدَّرَ من فِعْلٍ ، وعلى ابتلائي بكم» ۳ .
وقال تعالى : «قَـتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ»۴ .
وقد جرى على لساني من بركات علومهم عليهم السلام ما في القصيدة اللاميّة التي قلت فيهم (شعر) :

أتحسب الضُرّ ليست فيه منفعةٌحاشاه حاشاه ما هذا بمحتمل
هذا اُجاجٌ ولكن عند ذي سقمٍمن صحّ كان له أحلى من العسل
صحّح مزاجك إن شئت التلذّذ منطعم النوائب والأسقام والعلل
مزاج نفسك لا النفس التي اشتركتفيها البهائم ذات النهق والصهل
لو لم تكن لذّةٌ في النائبات لماصبّت على أنبياء اللّه والرُّسل
ولا على الأوصياء المصطفين ذويجلالة الشأن عند اللّه ذي الجلل
اُنظر إلى سيِّد الكونين وابنتهثمّ الإمام أمير المؤمنين عليّ
ثمّ الإمام الزكيّ المجتبى حسنٍسبط النبيّ النبيه السيّد النَبَل
ثمّ الحسين الإمام ابن الإمام أبيالأئمّة التسعة الهادين للسُّبلِ
قد ابتلوا بصنوف الموجعات وهمفي عصمة اللّه مُذ كانوا من الزلل
وبكلامهم عليهم السلام احتذى من قال ، وما أحسن ما قال :

ناخوش او خوش بود بر۵جان منجان فداى يار تن۶رنجان من۷
عاشقم بر لطف و بر قهرش بجداى عجب ، من عاشقِ اين هر دو ضد۸
قوله : (المعبودِ لقدرته).
تنقيح المقام بذكر ما قاله المفسِّرون في تفسير العبادة ، ونقل قدر من الآيات التي استعملت العبادة وما اشتقّ منها فيها ، وبيان أنّها لم تفسّر في كتب اللغة المتداولة ، وبذلك يتّضح معنى معبوديّته تعالى لقدرته ، فنقول :
في تفسير الكواشي ۹ : «العبوديّة : التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ؛ لأنّها غاية التذلّل ، فلايستحقّها إلّا من هو في غاية الإفضال». ومثله في تفسير الراغب . ۱۰
وقال البيضاوي : «العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه : طريقٌ معبّد ، أي مذلّل . وثوب ذو عبدة : إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا يستعمل إلّا في الخضوع للّه تعالى». ۱۱

1.البَشِع : الخشن من الطعام وكريه الطعم منه . لسان العرب ، ج ۸ ، ص ۱۱ (بشع) .

2.نهج البلاغة ، ص ۱۹۰ ، الخطبة ۱۳۲ .

3.نهج البلاغة ، ص ۲۵۸ ، الخطبة ۱۸۰ .

4.التوبة (۹) : ۱۴ و ۱۵ .

5.في المصدر : «در» .

6.في المصدر : «دل» .

7.مثنوى معنوى ، ص ۸۵ ، دفتر اوّل، ش ۱۷۷۸ .

8.مثنوى معنوى ، ص ۷۵، دفتر اوّل، ش ۱۵۷۱، مع اختلاف يسير .

9.هو أبو العبّاس الكواشي أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع بن الحسين بن سويدان الشيباني الموصلي ، المتوفّى سنة ۶۸۰ ه . وله تفسيران : تفسير كبير سمّاه بتبصرة المتذكّر ، وصغير سمّاه بالتلخيص (مخطوطان). اُنظر : كشف الظنون ، ج ۱ ، ص ۴۵۷ و ۴۸۰ ؛ هدية العارفين ، ج ۱ ، ص ۹۸ ؛ الأعلام للزركلي ، ج ۱ ، ص ۲۷۴ .

10.المفردات للراغب ، ص ۵۴۲ (عبد) .

11.أنوار التنزيل ، ج ۱ ، ص ۶۶ .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 125548
صفحه از 637
پرینت  ارسال به