وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود ، حتّى أنكروا خلق الأشياء ، وادّعوا أنّ كونها بالإهمال ، لا صنعة فيها ولا تقدير ، ولا حكمة من مدبّر ولا صانع ، تعالى اللّه عمّا يصفون ، وقاتلهم اللّه أنّى يؤفكون ، فهم في ضلالهم وعَمْيهم بمنزلة عُمْيان دخلوا دارا قد بُنيت أتقنَ بناءٍ وأحكمَه ، وفُرشت بأحسن الفراش وأفخره ، واُعدَّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يتردّدون فيها يمينا وشمالاً ، ويطوفون بيوتها إقبالاً وإدبارا ، محجوبةً أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار وما اُعدَّ فيها ، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه، واُعدّ للحاجة إليه، وهو جاهل بالمعنيّ فيه ولما اُعدَّ ولماذا جعل كذلك ، فتذمّر ۱ وتسخّط، وذمّ الدار وبانيها ، فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة ؛ فإنّهم لمّا غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ، ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته ، وحسن صنعه ، وصواب تهيئته .
وربّما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه والإرب فيه ، فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطأ ، كالذي أقدمت عليه المانية ۲ الكفرة ، وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة وأشباههم من أهل الضلال المعلّلين أنفسهم بالمحال ؛ فيحقّ على من أنعم اللّه
1.تذمّر هو : لام نفسه ، أو تغضّب . لسان العرب ، ج ۴ ، ص ۳۱۱ (ذمر) .
2.في المصدر : المنانيّة . وفي البحار : «المانويّة» وقال في البحار : «والمانويّة: فرقة من الثنويّة أصحاب ماني، الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير ، وأحدث دينا بين المجوسيّة والنصرانيّة ، وكان يقول بنبوّة المسيح على نبيّنا وآله و عليه السلام، ولايقول بنبوّة موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ، وزعم أنّ العالم مصنوع مركّب من أصلين قديمين ؛ أحدهما نور، والآخر ظلمة ، وهؤلاء ينسبون الخيرات إلى النور ، والشرور إلى الظلمة ، وينسبون خلق السباع والمؤذيات والعقارب والحيّات إلى الظلمة ؛ فأشار إلى فساد وهمهم بأنّ هذا لجهلهم بمصالح هذه السباع والعقارب والحيّات التي يزعمون أنّها من الشرور التي لايليق بالحكيم خلقها» . بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۶۱ . وللمزيد راجع : الملل والنحل للشهرستاني ، ج ۲ ، ص ۸۱ ؛ مروّج الذهب ، ج ۱ ، ص ۱۵۵ ؛ الفهرست ، ص ۴۵۶ ؛ الفرق بين الفرق ، ص ۱۶۲ و ۲۰۷ ؛ الآثار الباقية للبيروني ، ص ۲۰۷ .