171
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

استدلّ بالقمر ، ففيه دلالة جليلة يستعملها العامّة في معرفة الشهور ، ولا يقوم عليه حساب السنة ؛ لأنّ دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشوء الثمار وتصرّمها ، ولذلك صارت شهور القمر وسِنوه تتخلّف عن شهور الشمس وسِنيها ، وصار الشهر من شهور القمر تنتقل ، فتكون مرّة بالشتاء ، ومرّة بالصيف .
فكِّر في إنارته في ظلمة الليل والإرب فيه لك ۱ ، فإنّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدي الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمةً داجية لا ضياء فيها ، فلا يمكن فيه شيء من العمل ؛ لأنّه ربّما احتاج الناس على العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال بالنهار ، أو لشدّة الحرّ وإفراطه ، فيعمل في ضوء القمر أعمالاً شتّى ، كحرث الأرض ، وضرب اللبن ، وقطع الخشب ، وما أشبه ذلك ، فجعل ضوء القمر معونةً للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك واُنسا للسائرين ، وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطَهم بالنهار ، ويمتنعون من الهدوء والقرار فيهلكهم في ذلك ، وفي تصرّف القمر خاصّةً في مهلّه ومحاقه وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة اللّه خالقه المصرّف له هذا التصريفَ لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون .
فكِّر يا مفضّل في النجوم واختلاف مسيرها ؛ فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك ولا تسير إلّا مجتمعة ، وبعضها مطلقة ينتقل في البروج وتفترق في مسيرها ، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عامّ مع الفلك نحوَ المغرب ، والآخر خاصّ لنفسه نحوَ المشرق ، كالنملة تدور ذات الشمال، والنملة في تلك تتحرّك حركتين مختلفتين : إحداهما بنفسه ، فتتوجّه أمامَها ، والاُخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها . فاسأل الزاعمين أنّ النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانعَ لها : ما منعها أن يكون كلّها راتبةً ، أو كلّها منتقلة ، فإنّ الإهمال معنى واحد ، فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير ؟ ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على

1.في المصدر : «في ذلك» بدل «فيه لك» .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
170

وفي الخريف يصفو الهواء ، وترتفع الأمراض ، وتصحّ الأبدان ، ويمتدّ الليل ، فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله، ويطيب الهواء ، وفيه مصالح اُخرى لو تقصّيت لذكرها لطال فيها الكلام .
فكِّر الآنَ في تنقّل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة وما في ذلك من التدبير ، فهو الدور الذي تصحّ به الأزمنة الأربعة من السنة : الشتاء ، والربيع ، والصيف ، والخريف ، ويستوفيها على التمام ، وفي هذا القدر من دوران الشمس تدرك الغلّات والثمار ، وتنتهي إلى غاياتهم ، ثمّ تعود فتستأنف النشوء والنموّ ، ألا ترى أنّ السنة مقدار مسير الشمس من الحَمَل إلى الحمل ؛ فبالسنة وأخواتها كان ۱ الزمان من لدن خَلَق اللّه العالم إلى كلّ وقت وعصر في غابر الأيّام ، وبها يحسب الناس الأعمار والأوقات الموقّتة للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من اُمورهم ، وبمسير الشمس تكمل السنة ، ويقوم حساب الزمان على الصحّة .
اُنظر إلى شروقها على العالم كيف دبّر أن يكون ، فإنّها لو كانت تبزغ ۲ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات ؛ لأنّ الجبال والجدران كانت تحجبها [عنها] فجعلت تطلع في أوّل النهار من المشرق ، فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب .
ثمّ لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتّى تنتهي إلى المغرب ، فتشرق على ما استتر عنها في أوّل النهار ، فلا يبقى موضع من المواضع إلّا أخذ بقسطه من المنفعة منها والإرب التي قدّرت له ، ولو تخلّفت عن مقدار عامّ أو بعض عامّ كيف كان يكون حالهم ؟ بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء ؟ فلا ترى كيف كُفي الناسُ هذه الاُمورَ الجليلة التي لم يكن عندهم حيلة ، فصارت تجري على مجاريها ، لا تفتلّ ۳ ولا تتخلّف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه .

1.في المصدر : «يكال» .

2.بزع بزغا ، أي طلع . لسان العرب ، ج ۸ ، ص ۴۱۸ (بزغ) .

3.لاتفتلّ ، أي لاتنصرف ولاتزول . راجع : لسان العرب ، ج ۱۱ ، ص ۵۱۴ (فتل) .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 133093
صفحه از 637
پرینت  ارسال به