استدلّ بالقمر ، ففيه دلالة جليلة يستعملها العامّة في معرفة الشهور ، ولا يقوم عليه حساب السنة ؛ لأنّ دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشوء الثمار وتصرّمها ، ولذلك صارت شهور القمر وسِنوه تتخلّف عن شهور الشمس وسِنيها ، وصار الشهر من شهور القمر تنتقل ، فتكون مرّة بالشتاء ، ومرّة بالصيف .
فكِّر في إنارته في ظلمة الليل والإرب فيه لك ۱ ، فإنّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدي الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمةً داجية لا ضياء فيها ، فلا يمكن فيه شيء من العمل ؛ لأنّه ربّما احتاج الناس على العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال بالنهار ، أو لشدّة الحرّ وإفراطه ، فيعمل في ضوء القمر أعمالاً شتّى ، كحرث الأرض ، وضرب اللبن ، وقطع الخشب ، وما أشبه ذلك ، فجعل ضوء القمر معونةً للناس على معائشهم إذا احتاجوا إلى ذلك واُنسا للسائرين ، وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطَهم بالنهار ، ويمتنعون من الهدوء والقرار فيهلكهم في ذلك ، وفي تصرّف القمر خاصّةً في مهلّه ومحاقه وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة اللّه خالقه المصرّف له هذا التصريفَ لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون .
فكِّر يا مفضّل في النجوم واختلاف مسيرها ؛ فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك ولا تسير إلّا مجتمعة ، وبعضها مطلقة ينتقل في البروج وتفترق في مسيرها ، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عامّ مع الفلك نحوَ المغرب ، والآخر خاصّ لنفسه نحوَ المشرق ، كالنملة تدور ذات الشمال، والنملة في تلك تتحرّك حركتين مختلفتين : إحداهما بنفسه ، فتتوجّه أمامَها ، والاُخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها . فاسأل الزاعمين أنّ النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانعَ لها : ما منعها أن يكون كلّها راتبةً ، أو كلّها منتقلة ، فإنّ الإهمال معنى واحد ، فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير ؟ ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على