173
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

والسفر في البرّ والبحر ، وأشياءَ ممّا يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحرّ والبرد ، وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل ليقطع القفار الموحشة واللجج الهائلة ، مع ما في تردّدها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العِبر ؛ فإنّها تسير أسرعَ السير وأحثَّه .
أرأيت لو كان الشمس والقمر والنجوم بالقرب منّا حتّى تبيّن لنا سرعة سيرها بكنه ما عليه ، ألم يكن يستخطف الأبصار بوهجها ۱ وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجوّ ، وكذلك أيضا لو أنّ اُناسا كانوا في قبّة مكلّلة ۲ بمصابيحَ تدور حولهم دورا حثيثا لحارت أبصارهم حتّى يخرجوا لوجوههم .
فانظر كيف قدّر أن يكون مسيرها في البُعد البعيد لكيلا تضرّ في الأبصار وتنكأ فيها ، وبأسرع السرعة لكيلا تتخلّف عن مقدار الحاجة في مسيرها ، وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء يسدّ مسدّ الأضواء إذا لم يكن قمر ، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة ، كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي جوفَ الليل ، فإن لم يكن شيء من الضوء يهتدي به لم يستطع أن يبرح مكانه ، فتأمّل اللطف والحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة ومدّة لحاجةٍ إليها ، وجعل خلالَها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا .
وفكِّر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا الدَّوَرانَ الدائمَ بهذا التقدير والوزن ؛ لما في اختلاف الليل والنهار وهذه الأزمانِ الأربعةِ ۳ على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالذي بيّنت وشخّصت لك آنفا ، وهل يخفى على ذي لبّ أنّ هذا تقديرُ مقدّرٍ وصواب وحكمة من مقدّرٍ حكيم ؟
فإن قال قائل : إنّ هذا شيء اتّفق أن يكون هكذا ، فما منعه أن يقول مثل هذا في

1.الوَهْج والوَهَج والوَهَجان : حرارة الشمس والنار من بعيد . والوَهَج والوَهيج : تلألؤ الشيء وتوقّده . لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۴۰۱ (وهج) .

2.أي محفوفة بالنور . اُنظر لسان العرب ، ج ۱۱ ، ص ۵۹۶ (كلل) .

3.في المصدر : + «المتوالية من التنبيه» .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
172

ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير ، وليس بإهمال كما يزعمه المعطّلة .
فإن قال قائلٌ : لِمَ صار بعض النجوم راتبا ، وبعضها منتقلاً ؟
قلنا : إنّها لو كانت كلّها راتبةً لبطلت الدلالات التي يستدلّ بها من تنقّل المنتقلة ومسيرها في كلّ برج من البروج ، كما قد يستدلّ على أشياءَ ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشمس والنجوم في منازلها ، ولو كانت كلّها متنقّلة لم يكن لمسيرها منازلُ تُعرف ، ولا رسم توقف عليه ؛ لأنّها إنّما توقف [عليه] بمسير المنتقلة منها بتنقّلها في البروج الراتبة، كما يستدلّ على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها ، ولو كان تنقّلها بحال واحد لاختلط نظامها ، وبطلت المآرب فيها ، ولساغ لقائلٍ أن يقول : إنّ كينونتها على حالٍ واحدة توجب عليها الإهمالَ من الجهة التي وصفنا ، ففي اختلاف مسيرها وتصرّفها وما في ذلك من المآرب والمصلحة أبين دليل على العمد والتدبير فيها .
فكِّر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها ، كمثل الثريّا والجوزاء والشعريين وسهيل ؛ فإنّها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حيالها دلالاتٌ يعرفها الناس، ويهتدون بها لبعض اُمورهم ؛ كمعرفتهم الآنَ بما يكون من طلوع الثور والجوزاء إذا طلعت ، واحتجابها إذا حجبت ، فصار ظهور كلّ واحد واحتجابه في وقت واحد غيرَ وقت الآخر ، لينتفع الناس بما يدلّ عليه كلّ واحدٍ منها على حِدَته ، وكما جعلت الثريّا وأشباهها تظهر حينا وتحجب حينا لضرب من المصلحة ، كذلك جعلت «بنات النعش» ظاهرةً لا تغيب لضربٍ آخَرَ من المصلحة ؛ فإنّها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البرّ والبحر للطرق المجهولة، وذلك ۱
أنّها لا تغيب ولا تتوارى ، فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاؤوا ، وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجّهين نحوَ الإرب والمصلحة ، وفيها مآربُ اُخرى ۲ ودلالات على أوقات كثير من الأعمال ، كالزراعة والفراش ۳ ،

1.في المصدر : «وكذلك» .

2.في المصدر : + «علامات» .

3.في المصدر : «الغراش» .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 133094
صفحه از 637
پرینت  ارسال به