175
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

ثمّ فكِّر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبةً راكنةً ، فتكون موطنا مستقرّا للأشياء ، فيتمكّن الناس من السعي عليها في مآربهم ، والجلوس عليها لراحتهم ، والنوم لهدوئهم ، والإتقان لأعمالهم ؛ فإنّها لو كانت رَجْراجَةً ۱ منكفئةً لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والتجارة ۲ والصناعة وما أشبه ذلك ، بل كانوا لا يتهنّؤون بالعيش والأرض ترتجّ من تحتهم ، واعتبر ذلك بما يصيب الناسَ في الزلازل على قلّة مكثها حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها .
فإن قال قائل : فلِمَ صارت هذه الأرض تزلزل ؟
قيل له : إنّ الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب يرهّب بها الناس؛ ليردعوا وينزعوا عن المعاصي ، وكذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم وأموالهم تجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم ، ويدّخر لهم إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من اُمور الدنيا ، وربّما عجّل ذلك في الدنيا إذا كان صلاحا للعامّة والخاصّة .
ثمّ إنّ الأرض في طباعها الذي طبعها اللّه عليه باردة يابسة ، وكذلك الحجارة ، أفرأيت لو أنّ اليبس أفرط على الأرض قليلاً حتّى يكون حجرا صلدا كانت ۳ تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان؟ وكان يمكن بها حرث أو بناء ؟ أفلا ترى كيف تنصّبت من يبس الحجارة وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة ليتهيّأ للاعتماد .
ومن تدبير الحكيم ـ جلّ وعلا ـ في خلقة الأرض أنّ مهبّ الشمال أرفع من مهبّ الجنوب ، فلِمَ جعل اللّه عزّوجلّ كذلك إلّا لينحدر المياه على وجه الأرض، فيسقيها ويرويها ، ثمّ يفيض آخرَ ذلك إلى البحر ، فكما يرفع أحد جانبي السطح ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه ، كذلك جعل مهبّ الشمال أرفعَ من مهبّ الجنوب لهذه العلّة بعينها ، ولولا ذلك لبقي الماء متحيّرا على وجه الأرض ، فكان يمنع الناس من اعتمالها ويقطع الطريق والمسالك .

1.رَجْراجَة ، أي مضطربة . لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۲۸۲ (رجج) .

2.في المصدر : «النجّارة» .

3.في المصدر : «أكانت» .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
174

دولاب يراه يدور، ويسقي حديقة فيها شجر ونبات ، فترى كلّ شيء من آلته مقدّرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح الحديقة و بما فيها ؟ وبِمَ كان يثبت هذا القول لو قاله؟ وما ترى الناس كانوا قائلين منه لو سمعوه منه ؟ أفينكر أن يقول في دولاب خشب خسيس مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعةٍ من الأرض : إنّه كان بلا صانع ومقدّر، ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض وما عليها : إنّه شيء اتّفق أن يكون بلا صنعة ولا تقدير لو اعتلّ هذا الفلك كما تعتلّ الآلات التي تتّخذ للصناعات وغيرها أيّ شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه» . ۱
هذا نبذة ممّا قاله عليه السلام في خلق السماوات .

فصل : في خلق الأرضيّات

قال عليه السلام : «فكِّر يا مفضّل فيما خلق اللّه عزّوجلّ من هذه الجواهر الأربعة ۲ ليتّسع ما يحتاج إليه منها ، فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها ، فلولا ذلك كيف كانت تتّسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيمة غناؤها ؟ ولعلّ من ينكر هذه الفلوات الخاوية والقفار الموحشة، فيقول : ما المنفعة فيها ؟ فهي مأوى هذه الوحوش ومحالّها ومرعاها ، ثمّ فيها بعدُ منتفسٌ ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم ، فكم بيداء ، وكم فَدْفَد ۳ حالت قصورا وجنانا بانتقال الناس إليها وحلولِهم فيها ، ولولا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيّق لايجد منه مندوحةً من وطنه ، وإذا حزبه أمر يضطرّه إلى الانتقال عنه .

1.توحيد المفضّل ، ص ۱۲۶ ـ ۱۳۷ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۱۱۱ ـ ۱۱۷ .

2.المراد بالجواهر الأربعة هي التراب والماء والهواء والنار .

3.الفَدْفَدُ : الفلاة التي لاشيء بها . وقيل : هي الأرض الغليظة ذاتُ الحصى . وقيل : المكان الصُّلب . لسان العرب ، ج ۳ ، ص ۳۳۰ (فدفد) .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 133073
صفحه از 637
پرینت  ارسال به