177
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

فيه ، ويعجز عمّا يحول إلى السحاب والضباب أوّلاً أوّلاً ، وقد تقدّم من صفته ما فيه كفاية .
والنار أيضا كذلك ، فإنّها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق العالم وما فيه ، و[لما] لم يكن بدّ من ظهورها في الأحايين لعنائها في كثير من المصالح ، فجعلت كالمخزونة في الأجسام ، ملتمس عند الحاجة إليها ، وتمسك بالمادّة والحطب ما احتيج إلى بقائها لئلّا تخبو ، فلاهي تمسك بالمادّة والحطب فتعظم المؤونة في ذلك ، ولا هي تظهر مبثوثةً فتحرق كلّ ما هي فيه ، بل على تهيئة وتقدير ، اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها والسلامة من ضررها .
ثمّ فيها خلّة اُخرى وهي أنّها ممّا خصّ به الإنسان دون جميع الحيوان لما فيه من المصلحة ، فإنّه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه .
أمّا البهائم ، فلا تستعمل النار ولا تستمتع بها ، ولمّا قدّر اللّه عزّوجلّ أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفّا وأصابعَ مهيّئةً لقدح النار واستعمالها ، ولم يُعْطَ البهائم مثل ذلك، لكنّها اُعينت بالصبر على الجفاء، والخلل في المعاش؛ لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان . واُنبّئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها ، وهي هذه المصباح التي يتّخذها الناس ، فيقضون به حوائجهم ما شاؤوا من ليلهم ، ولولا هذه الخلّة لكان الناس يصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور ، فمن كان يستطيع أن يكتب أو يخيط أو ينسج في ظلمة الليل ؟ وكيف كانت حال من عرض له وجع في وقتٍ من أوقات الليل، فاحتاج أن يعالج ضمادا أو سفوفا أو أشياء يستشفى به . فأمّا منافعها في نضج الأطعمة ودفاء الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك ، فأكثر من أن تحصى ، وأظهر من أن يخفى» . ۱
قال عليه السلام : «اُنظر يا مفضّل هذه الجبالَ المركومة من الطين، والحجارة التي قد يحسبها الغافلون فضلاً لا حاجة إليها ، والمنافع فيها كثيرة : فمن ذلك أن يسقط عليها الثلوج ،

1.توحيد المفضّل ، ص ۱۴۲ ـ ۱۴۸ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۱۲۲ ـ ۱۲۴ .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
176

ثمّ الماء لولا كثرته وتدفّقه في العيون والأودية والأنهار لضاق عمّا يحتاج الناس إليه لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم ، وسقي زروعهم وأشجارهم وأصناف غلّاتهم، وشرب ما يرده من الوحوش والطيور والسباع ، ويتقلّب فيه الحيتان ودوابّ الماء ، وفيه منافعُ اُخر أنت بها عارف ، وعن عظيم موقعها غافل ؛ فإنّه سوى الأمر الجليل المعروف ـ من [عظيم] عنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان والنبات ـ يمزج الأشربة ، فتلين ۱ وتطيب لشاربها ، وبه تنظّف الأبدان والأشربة من الدَّرَن الذي يغشاها ، وبه يبلّ التراب فيصلح للاعتمال ، وبه يكفّ عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس على المكروه ، وبه يستحمّ المتعب الكالّ ، فيجد الراحة من أوصابه ، إلى أشباه هذه المآرب التي يعرف عِظَم موقعها في وقت الحاجة إليها ، فإن شككت في هذه المياه الكثيرة المتراكمة في البحار، وقلت : ما الإرب فيه ؟ فاعلم أنّه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودوابّ البحر ومعدن اللؤلؤ والمرجان والعنبر وأصناف شتّى يستخرج من البحر ، وفي سواحله منابت العود واليَلَنْجُوج ۲ ، وضروب من الطيب والعقاقير .
ثمّ هو بعدُ مركب الناس ومحمل لهذه التجارات التي تُجلب من البلدان البعيدة، كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ، ومن العراق إلى العراق ۳ ؛ فإنّ هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلّا على الظهر لبادت ۴ وبقيت في بلدانها وأيدي أهلها ؛ لأنّ أجر حملها كان يجاوز أثمانها ، فلا يتعرّض أحد لحملها ، وكان يجتمع من ذلك أمران: أحدهما فقد أشياءَ كثيرةٍ تعظم الحاجة إليها ، والآخر انقطاع معائش من يحملها ويتعيّش بفضلها .
وهكذا الهواء لولا كثرته وسعته لاختنق هذا الأنام من الدخان والبخار الذي يتحيّر

1.في المصدر : «فتلذّ» .

2.الألَنْجوجُ واليَلَنْجوجُ : عود جيّد . لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۳۵۹ (لنج) .

3.في المصدر : «ومن العراق إلى الصين» .

4.في المصدر : «لبارت» . وكلاهما بمعنى هلكت .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 133067
صفحه از 637
پرینت  ارسال به