181
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

أحدَهم عن حاجة لا قدر لها ، فتذمّر وتسخّط إيثارا للخسيس قدرُه على العظيم نفعُه ، جميلاً محمودَ العاقبة ، وقلّةَ معرفةٍ بعظيم العناء والمنفعة فيها .
تأمّل نزوله على الأرض والتدبيرَ في ذلك ، فإنّه جعل ينحدر عليها من عَلُ ليغشى ما غلظ وارتفع منها ويرويَه ، ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها ، ويقلّ ما يزرع من الأرض .
ألا ترى أنّ الذي يزرع سيحا ۱ أقلُّ من ذلك ، فالأمطار هي التي تطبق الأرض ، وربما يزرع هذه البراري الواسعة وسفوحَ الجبال وذُراها ، فتغلّ الغلّة الكثيرة ، وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونةُ سياق الماء من موضع إلى موضع ، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم ، حتّى يستأثر بالماء ذووا العزّة والقوّة ، ويحرمه الضعفاء .
ثمّ إنّه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جَعَلَ ذلك قطرا شبيها بالرشّ ليغور في قعر الأرض فيرويها ، ولو كان يسكبه إسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ، ثمّ كان يحطّم الزروع القائمة إذا اندفق عليها ، فصار ينزل نزولاً رفيقا ، فينبت الحبّ المزروع، ويُحيي الأرض والزرع القائم .
وفي نزوله أيضا مصالح اُخرى : فإنّه يليّن الأبدان ، ويجلو كدر الهواء، فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ، ويغسل ما يسقط من الشجر والزرع من الداء المسمّى اليرقان ، إلى أشباه هذا من المنافع .
فإن قال قائل : أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدّة ما يقع منه ، أو برد يكون فيه تحطّم الغلّات ، وخثورة ۲ يحدثها في الهواء ، فيتولّد كثيرا من الأمراض في الأبدان والآفات في الغلّات ؟
قيل : قد يكون ذلك الفرط لما فيه صلاح الإنسان ، وكفُّه عن ركوب المعاصي

1.زراعة السيح هي الزراعة التي تحصل عن طريق الأنهار والمياه الجارية . راجع : لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۴۹۲ (سيح) .

2.في المصدر : «بخورة» .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
180

وما يرد في الأرض للبذر ، أفلا ترى ما في الحرّ والبرد من عظيم العناء والمنفعة، وكلاهما مع عنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضّها ؛ وفي ذلك عبرة لمن فكّر ، ودلالة على أنّه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه» . ۱

فصل : فيما أنزل اللّه من السماء من ماءٍ

قال عليه السلام : «فكِّر يا مفضّل في الصحو والمطر كيف يعتقبان ۲ على هذا العالم لما فيه صلاحه ، ولو دام واحد منهما عليه كان من ذلك فساده ؛ ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر ، واسترخت أبدان الحيوان ، وخثر ۳ الهواء ، فأحدث ضروبا من الأمراض ، وفسدت الطرق والمسالك ، وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض ، واحترق النبات ، وغيض ماء العيون والأودية ، فأضرّ ذلك بالناس ، وغلب اليبس على الهواء، فأحدث ضروبا اُخرى من الأمراض ، فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقبَ اعتدل الهواء، ورفع كلّ واحد عاديةَ الآخَر ، فصلحت الأشياء واستقامت .
فإن قال قائل : ولِمَ لا يكون في شيءٍ من ذلك مضرّة البتّة ؟
قيل : ليمض ذلك للإنسان ويؤلمه بعض الألم ، فيرعوي عن المعاصي ، فكما أنّ الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرّة البشعة ليقوم طباعه ، ويصلح ما فسد منه، كذلك إذا طغى وأشر احتاج إلى ما يعضه ويؤلمه ليرعوي ، ويقصر عن مساويه ، ويثبته على ما فيه حظّه ورشده .
ولو أنّ مَلِكا من الملوك قسم من أهل مملكته قناطيرَ من ذهب وفضّة ، ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت ؟ فأين هذا من مطرة رواء يعمّ به البلاد ، ويزيد في الغلّات أكثر من قناطير الذهب والفضّة في أقاليم الأرض كلّها ؟ أفلاترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرَها ، وأعظم النعمةَ على الناس فيها وهم عنها ساهون ، وربما عاقت

1.توحيد المفضّل ، ص ۱۳۷ ـ ۱۴۰ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۱۱۸ ـ ۱۱۹ .

2.في المصدر : «يتعاقبان» .

3.خثر ، أي اشتدّ وثخن . وفي المصدر : حصر . راجع : مجمع البحرين ، ج ۳ ، ص ۲۸۲ (خثر).

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 132979
صفحه از 637
پرینت  ارسال به