183
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

فإن قال قائل : إنّه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكديد الشديد ، وهم مع ذلك [غير] عديمي العقل والذهن ؟
فيُقال في جواب ذلك : إنّ هذا الصنف من الناس قليل ، فأمّا أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدوابّ من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ، ولا يغرون ۱ بما يحتاج إليه منه ، ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم، لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال؛ لأنّه كان يحتاج مكان الحمل الواحد والبغل الواحد عدّة أناسيّ ، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات ، مع ما يلحقهم من التعب القادح في أبدانهم ، والضيق والكدّ في معاشهم .
فكِّر يا مفضّل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقتها على ما هي عليه بما فيه صلاح كلّ واحدٍ منها .
فالإنس لمّا قدّر أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة وغير ذلك ، خلق لهم أكفّ كبار ذوات أصابعَ غلاظٍ؛ ليتمكّنوا من القبض على الأشياء ، وأوكدها هذه الصناعات . وآكلاتُ اللحم لمّا قدّر أن يكون معاشها من الصيد ، خلقت لهم أكفّ لِطاف مُدْمِجة ۲ ذوات بَراثنَ ۳ ومخالبَ ۴ تصلح لأخذ الصيد ، ولا تصلح للصناعات وآكلات النبات ؛ لما قدّر أن يكونوا لا ذواتَ صنعة ولا ذواتَ صيد ، خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونةَ الأرض إذا حاول طلب الرعي، ولبعضها حوافرُ مُلَمْلَمة ۵ ذوات قعر كأخمص القدم ، تنطبق على الأرض ليتهيّأ للركوب والحمولة .

1.أي لايؤثر فيهم الإغراء والتحريض على جميع الأعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي يأتي به الدوابّ.

2.مدمجة ، أي مستقيمة محكمة متداخلة . راجع : لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۲۷۵ (دمج) .

3.البراثن ـ جمع بُرثُن بالضمّ ـ من السباع والطير بمنزلة الإصبع من الإنسان . لسان العرب ، ج ۱۳ ، ص ۵۰ (برثن) .

4.المخالب ـ جمع مِخلب بالكسر ـ وهو الظفر خصوصا من السباع . لسان العرب ، ج ۱ ، ص ۳۶۳ (خلب) .

5.ململمة ، أي مجموعة بعضها إلى بعض . راجع : لسان العرب ، ج ۱۲ ، ص ۵۵۰ (لمم) .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
182

والتمادي فيها ؛ فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح ممّا عسى أن يزري في ماله» . ۱فصل : في«وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ».۲
اعلم أنّ الصادق عليه السلام في المجلس الثاني من الكتاب المذكور بسط الكلام في أحوال الدوابّ ، وإذ لا يتّسع كتابي هذا لذكر الجميع التقطتُ منه قدرا على سبيل الاُنموذج .
قال عليه السلام : «ابتدئ لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك من غيره ، فكِّر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه ؛ فلا هي صلاب كالحجارة، ولو كانت ذلك لاتنثني ۳ ولا تتصرّف في الأعمال ، ولا هي على غاية اللين والرخاوة ، فكانت لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها ، فجعلت من لحمٍ رخو ينثني ، يتداخله عظام صلاب ، يمسكه عصب وعرق تشدّه ، وتضمّ بعضَه إلى بعض ، وعُلِيَت ۴ فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كلّه .
ومن أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل على العيدان ، وتلفّ بالخرق ، وتشدّ بالخيوط ، ويطلى فوق ذلك بالصمغ ، فيكون العيدان بمنزلة العظام ، والخرق بمنزلة اللحم ، والخيوط بمنزلة العصب ، والعروق والطلا بمنزلة الجلد ؛ فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع ، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميّتة ، فإن كان هذا غير جائز في التماثيل، فبالحريّ لا يجوز في الحيوان .
وفكِّر بعد هذا في أجساد الأنعام ، فإنّها حين خُلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب ، اُعطيت أيضا السمعَ والبصر ليبلغ الإنسان حاجته ، فإنّها لو كانت عمياء صمّاء لما انتفع بها الإنسان ، ولا تصرّفت في شيءٍ من مآربه ، ثمّ منعت الذهنَ والعقل لتذلّ الإنسان ، فلا يمتنع عليه إذا كدّها الكدَّ الشديدَ ، وحملها الحملَ الثقيل .

1.توحيد المفضّل ، ص ۱۴۸ ـ ۱۵۰ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۱۲۵ ـ ۱۲۶ .

2.البقرة (۲) : ۱۶۴ .

3.لاتنثني ، أي لاتنعطف ولاتميل .

4.في المصدر : «غلفت» .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 128338
صفحه از 637
پرینت  ارسال به