فإن قال قائل : إنّه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلّون ويذعنون بالكديد الشديد ، وهم مع ذلك [غير] عديمي العقل والذهن ؟
فيُقال في جواب ذلك : إنّ هذا الصنف من الناس قليل ، فأمّا أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدوابّ من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ، ولا يغرون ۱ بما يحتاج إليه منه ، ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم، لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال؛ لأنّه كان يحتاج مكان الحمل الواحد والبغل الواحد عدّة أناسيّ ، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتّى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات ، مع ما يلحقهم من التعب القادح في أبدانهم ، والضيق والكدّ في معاشهم .
فكِّر يا مفضّل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقتها على ما هي عليه بما فيه صلاح كلّ واحدٍ منها .
فالإنس لمّا قدّر أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة وغير ذلك ، خلق لهم أكفّ كبار ذوات أصابعَ غلاظٍ؛ ليتمكّنوا من القبض على الأشياء ، وأوكدها هذه الصناعات . وآكلاتُ اللحم لمّا قدّر أن يكون معاشها من الصيد ، خلقت لهم أكفّ لِطاف مُدْمِجة ۲ ذوات بَراثنَ ۳ ومخالبَ ۴ تصلح لأخذ الصيد ، ولا تصلح للصناعات وآكلات النبات ؛ لما قدّر أن يكونوا لا ذواتَ صنعة ولا ذواتَ صيد ، خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونةَ الأرض إذا حاول طلب الرعي، ولبعضها حوافرُ مُلَمْلَمة ۵ ذوات قعر كأخمص القدم ، تنطبق على الأرض ليتهيّأ للركوب والحمولة .
1.أي لايؤثر فيهم الإغراء والتحريض على جميع الأعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي يأتي به الدوابّ.
2.مدمجة ، أي مستقيمة محكمة متداخلة . راجع : لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۲۷۵ (دمج) .
3.البراثن ـ جمع بُرثُن بالضمّ ـ من السباع والطير بمنزلة الإصبع من الإنسان . لسان العرب ، ج ۱۳ ، ص ۵۰ (برثن) .
4.المخالب ـ جمع مِخلب بالكسر ـ وهو الظفر خصوصا من السباع . لسان العرب ، ج ۱ ، ص ۳۶۳ (خلب) .
5.ململمة ، أي مجموعة بعضها إلى بعض . راجع : لسان العرب ، ج ۱۲ ، ص ۵۵۰ (لمم) .