187
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

اُنظر يا مفضّل إلى لطف اللّه ـ جلّ اسمه ـ بالبهائم كيف كُسِيت أجسامهم هذه الكسوةَ من الشعر والوبر والصوف؛ ليقيها من البرد وكثرة الآفات ، واُلبست الأظلافَ والحوافرَ والأخفافَ؛ ليقيها من الحَفا ۱ إذا كانت لا أيدي لها ولا أكفّ ولا أصابع مهيّئة للغزل والنسج ، فكُفوا بأن جعل كسوتهم في خلقتهم باقيةً عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها والاستبدال بها .
فأمّا الإنسان ، فإنّه ذو حيلة وكفّ مهيّئة للعمل ، فهو ينسج ويغزل ويتّخذ لنفسه الكسوة ، ويستبدل بها حالاً عن حال ، وله في ذلك صلاح من جهات : من ذلك أنّه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما يخرجه إليه الكفاية ، ومنها أنّه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ولبسها إذا شاء ، ومنها : أن يتّخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال وروعة ، فيتلذّذ بلبسها وتبديلها ، وكذلك يتّخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف والنِّعال يقي بها قدميه ، وفي ذلك معايشُ لمن يعمله من الناس ، ومكاسبُ يكون فيها معاشهم ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم ، فصار الشعر والوبر والصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة ، والأظلافُ والأخفاف مقام الحِذاء .
فكِّر يا مفضّل في خلقة عظيمة في البهائم ، فإنّهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم ، وإلّا فأين جيف هذه الوحوش والسِّباع وغيرها لا يُرى منها شيء وليست قليلةً فتخفى لقلّتها ؟
بل لو قال قائل : إنّها أكثر من الناس لصدَق ، فاعتبر ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظباء ۲ والمها ۳ والحمير والوعول ۴ والأيائل ۵ ، وغير ذلك من

1.الحفا : المشي بغير خُفّ ولانعل . لسان العرب ، ج ۱۴ ، ص ۱۸۶ (حفا) .

2.الظباء ، جمع طيبة ، وهي اثني الغزال .

3.المها ، جمع مَهاة ، وهي بقرة الوحشيّة . لسان العرب ، ج ۱۵ ، ص ۲۹۸ (مها) .

4.الوعول ، جمع وَعِل ، وهو تيس الجبل، له قرنان قويّان منحنيان . اُنظر: لسان العرب ، ج ۱۱ ، ص ۷۳۱ (وعل) .

5.الأيائل ، جمع أيّل . قيل: هو الذكر من الأوعال ، ويقال : هو الذي يسمّى بالفارسيّة «گوزن». اُنظر: لسان العرب ، ج ۱۱ ، ص ۳۳ (أول) .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
186

حارسا للإنسان ، له عين بأنياب ومخاليبُ ونياح هائل ليذعر منه السارق ، ويتجنّب المواضع التي يحميها ويخفرها» . ۱
قال عليه السلام : «تأمّل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير ، فإنّه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وازدرادهما إلى جوفه ، ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ؛ لأنّه ليست له رقبة يمدّها كسائر الأنعام ، فلمّا اُعدم العنقَ اُعين مكانَ ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله ، فيتناول به حاجته ، فمن ذا الذي عوّضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه إلّا الرؤوف بخلقه ؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قال الظلمة ؟
اُنظر الآنَ كيف حياء الاُنثى من الفيلة في أسفل بطنها، فإذا هاجت للضراب ارتفع وبرز حتّى يتمكّن الفحل من ضرابها ، فاعتبر كيف جعل حياء الاُنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ؟ ثمّ جعلت فيه هذه الخلّة لتتهيّأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه» . ۲
«تأمّل خلق القِرَد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه ، أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر ، وكذلك أحشاؤه أيضا شبيهةٌ بأحشاء الإنسان ، وخُصّ مع ذلك بالذهن والفطانة التي بها يفهم عن سائسه ما يؤمئ إليه ، ويحكي كثيرا ممّا يرى الإنسان يفعله حتّى أنّه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرةً للإنسان في نفسه ، فيعلم أنّه من طينة البهائم وسنخها ؛ إذ كان يقرب من خلقها هذا القربَ، وأنّه لولا فضيلة فضّله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم ، على أنّ في جسم القرد فضولاً اُخرى يفرق بينه وبين الإنسان ، كالخَطْم ۳ والذنب المسدل والشعر المجلّل للجسم كلّه ، وهذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو اُعطي مثلَ ذهن الإنسان وعقله ونطقه ، والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان بالصحّة هو النقص في العقل والذهن والنطق .

1.توحيد المفضّل ، ص ۹۴ ـ ۱۰۱ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۹۰ ـ ۹۶ .

2.توحيد المفضّل ، ص ۱۰۳ ـ ۱۰۴ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۹۵ ـ ۹۷ .

3.الخَطْم من كلّ دابّة : مُقَدَّمُ أنفها وفمها . لسان العرب ، ج ۱۲ ، ص ۱۸۶ (خطم) .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 128294
صفحه از 637
پرینت  ارسال به