189
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

إلّا من يوكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه، فإنّه لمّا كان الثعلب يضعف عن كثير ممّا يقوى عليه السباع من مساورة الصيد ، اُعين بالدهاء والفطنة والاحتيال لمعاشه .
والدلفين يلتمس صيد البحر ، فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويشرّحه ۱ حتّى يطفو على الماء ، ثمّ يكمن تحته ويثور الماء الذي عليه حتّى لا يتبيّن شخصه ، فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها ، فانظر إلى هذه الحيلة كيف صار طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة» .
قال المفضّل : فقلت : خبّرني مولاي عن التنين والسحاب .
فقال عليه السلام : «إنّ السحاب كالموكّل به يختطفه حيث ما يفقه ۲ كما يختطف حجر المغناطيس الحديد ، فهو لا يطلع رأسه من الأرض خوفا من السحاب ، ولا يخرج إلّا في القيظ ۳ مرّة إذا أضحت ۴ السماء ، فلم يكن فيها نكتة من غيمة» .
قلت : فلِمَ وكّلت السحاب بالتنين يرصده ، ويختطفه إذا وجده ؟
قال : «ليدفع عن الناس مضرّته» .
فقلت : لقد وصفت يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبرٌ لمن اعتبر ، فصِفْ لي الذرّة والنملة والطير .
فقال عليه السلام : «يا مفضّل ، تأمّلْ وجه الذرّة الحقيرة الصغيرة ، هل تجد فيها نقصا عمّا فيه صلاحها ؟ فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرّة إلّا من التدبير القائم في صغير الخلق وكبيره ، اُنظر إلى النمل واحتشاده في جمع القوت وإعداده ، فإنّك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحَبّ إلى زُبْيَتِها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيرَه ، بل للنمل في ذلك من الجدّ والتشمير ليس للناس مثله ؛ أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ، ثمّ يعمدون إلى الحَبّ فيقطعونه قِطَعا كيلا ينبت فيفسد عليهم ، فإن أصابه ندى فأخرجوه فنشروه حتّى يجفّ ، ثمّ لا يتّخذ النمل الزبية إلّا في

1.في المصدر : «يسرحه» .

2.في المصدر : «ثقفه» .

3.القيظ : حميم الصيف، وشدّة الحرّ .

4.في المصدر : «صحت» .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
188

الوحوش وأصناف السِّباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها ، وضروب الهوامّ والحشرات ودوابّ الأرض ، وكذلك أسراب الطير من الغربان ۱ والقطا والإوزّ ۲ والكراكي ۳ والحمام وسباع الطير جميعا ، وكلّها لا يُرى منها إذا ماتت إلّا الواحد بعد الواحد يصيده قانص ۴ أو يفترسه سبع ، فإذا أحسّوا بالموت كَمَنُوا ۵ في مواضعَ خفيّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتّى تفسد رائحة الهواء ، وتحدث الأمراض والوباء ، فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس، وعملوه بالتمثيل ۶ الأوّل الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وأذكارا في البهائم وغيرها ؛ ليسلم الناس من معرّة ۷ ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد .
فكِّر يا مفضّل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من اللّه عزّوجلّ ؛ لئلّا يخلو من نعمه ـ جلّ وعزّ ـ أحدٌ من خلقه لا بعقلٍ ورويّة ، فإنّ الأيّل يأكل الحيّات ، فيعطش عطشا شديدا ، فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدبّ السمّ في جسمه فيقتله ، فيقف على الغدير وهو مجهود عطشا ، فيعجّ عجيجا عاليا ولا يشرب منه ، ولو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل الظمأ الغالب الشديد خوفا من المضرّة في الشرب ، وذلك ما لا يكاد الإنسان العاقل المميّز يضبطه من نفسه .
والثعلب إذا أعوزه الطعم ، تمادت ونفخ بطنه حتّى يحسبه الطير ميّتا ، فإذا وقعت عليه لتنهشه ، وثب عليها فأخذها ، فمن أعان الثعلب العديم النطق والرويّة بهذه الحيلة

1.الغربان ، جمع الغراب .

2.الإوزّ ، جمع الإوَزَّة : طائر مائى . لسان العرب ، ج ۵ ، ص ۳۰۹ (أوز) .

3.الكراكي ، جمع كُرْكي : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، قليل اللحم ، يأوي إلى الماء أحيانا .

4.قَنَصَ الصيدَ : صاده . لسان العرب ، ج ۷ ، ص ۸۳ (قنص) .

5.كَمَنَ : توارى واستخفى ، ومنه الكمين في الحرب . مجمع البحرين ، ج ۶ ، ص ۳۰۲ (كمن) .

6.المراد بالتمثيل ما ذكره اللّه تعالى في قصّة قابيل .

7.المعرّة : الأذى . لسان العرب ، ج ۴ ، ص ۵۵۶ (عرر) .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 128295
صفحه از 637
پرینت  ارسال به