195
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

فكِّر الآنَ في كثرة نسله وما خصّ به من ذلك ، فإنّك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرةً ، والعلّة في ذلك أن يتّسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان ؛ فإنّ أكثرها يأكل السمك أيضا ، حتّى أنّ السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي يرصد السمك ، فإذا مرَّ بها خطفته ، فلمّا كانت السباع تأكل السمك ، والطير يأكل السمك ، والناس يأكلون السمك ، والسمك يأكل السمك ، كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة ، فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقِصَر علوم المخلوقين ؛ فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ، ودوابّ الماء والأصداف ، والأصناف التي لا تحصى ولا يعرف منافعها إلّا الشيء بعد الشيء ، يدرك الناس بأسباب تحدث ، مثل القرمز ؛ فإنّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبته تجول على شاطئ البحر ، فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمّى الحيلزون ۱ ، فأكلته فاختضبت خطمها بدمه ، فنظر الناس إلى حسنه فاتّخذوه صبغا ، وأشباه هذا ممّا يقف الناس عليه حالاً بعد حال ، وزمانا بعد زمان» . ۲

فصل : في السحاب المسخّر بين السماء والأرض

قال عليه السلام : «اُنبّهك يا مفضّل على الريح وما فيها ؛ ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ، ويمرض الأصحّاء ، وينهك المرضى ، ويفسد الثمار، ويعفن البقول ، ويعقب الوباءَ في الأبدان ، والآفةَ على الغلّات ، ففي هذا بيان أنّ هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الهواء . ۳
واُنبّهك عن الهواء بخلّة اُخرى ؛ فإنّ الصوت أثر يؤثّره اصطكاك الأجسام في الهواء، والهواء يؤدّيه إلى المسامع ، والناس يتكلّمون في حوائجهم ومعاملاتهم طولَ نهارهم وبعضَ ليلهم ، فلوكان أثر هذه المكارم ۴ يبقى في الهواء كما يبقى الكتابة في

1.في المصدر : «الحلزون» .

2.توحيد المفضّل ، ص ۱۲۲ ـ ۱۲۵ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۱۰۶ ـ ۱۱۰ .

3.في المصدر : «الخلق» .

4.في المصدر : «هذا الكلام» .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
194

قال عليه السلام : «اُنظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل ، وتهيئة البيوت المسدّسة ، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة ؛ فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيبا لطيفا ، وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس ، وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيّا جاهلاً بنفسه فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل ، بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس .
اُنظر إلى هذا [الجراد] ما أضعفه وأقواه، فإنّك إذا تأمّلت خلقه رأيته كأضعف الأشياء ، وإن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه ؛ ألا ترى أنّ ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورَجِله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك ، أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه ، فلا يستطيع دفعه .
اُنظر إليه كيف ينشاب على وجه الأرض مثل السيل ، فغشي السهل والجبل والبدو والحضر حتّى يستر نور الشمس بكثرته ، فلو كان لهذا ممّا يصنع بالأيدي ، متى يجتمع منه هذه الكثرة ؟ وفي كم من سنة كان يرتفع ؟ فاستدلّ بذلك على القدرة التي لا يؤودها شيء ، ولا يكبر عليها .
تأمّل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر عليه ، فإنّه خلق غير ذوي قوائمَ ؛ لأنّه لايحتاج إلى المشي ، إذ كان مسكنه الماء ، وخُلق غيرَ ذي ريةٍ لأنّه لايستطيع أن يتنفّس [وهو منغمس] في اللجّة ، وجُعلت له مكانَ القوائم أجنحةٌ شداد يضرب بها في جانبيه كالملّاح بالمجاويف من جانبي السفينة ، وكسى جسمه قشورا مِتانا متداخلة كتداخل الدروع والجواشن ليقيه من الآفات ، فاُعين بفضل حسّ في الشمّ ؛ لأنّ بصره ضعيف والماء يحجبه ، فصار الشمّ من البُعد البعيد فينتجعه ، وإلّا فكيف يعلم بموضعه ؟
واعلم أنّ مِن فيه إلى صماخيه منافذَ ، فهو يعبّ الماء بفيه ، ويرسله من صماخيه ، فيتروّح إلى ذلك كما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسُّم هذا النسيم .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 128223
صفحه از 637
پرینت  ارسال به