201
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشيء من الأرض والجبال يتخلّل الشجرة ، فلا يحرّك منها شيئا ، ولا يهصر ۱ منها غصنا ، ولا يعلق منها بشيء يعرض الركبان ، فيحوّل بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته ، مع ما فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللامعة والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الأوهام صفته ، ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه ، فيخرج مستقلّاً في الهواء ، يجتمع بعد تفرّقه ويلتئم بعد تزايله ، تفرّقه الرياح من الجهات كلّها حيث تسوقه بإذن اللّه ربّها، يسفل مرّة ويعلو اُخرى ، متمسّك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور ، يمرّ على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه قطرة ، حتّى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ ، فيرسل فيه قطرةً بعد قطرة ، وسيلاً بعد سيل ، متتابع على رَسْله حتّى تنقع البِرَك ، وتمتلئ الفجاج ، وتعتلي الأودية ، تسيل كأمثال الجبال غاصّة بسيولها ، مصمخة الآذان لدويّها وهديرها ، فتحيا به الأرض الميتة ، فتصبح مخضرّةً بعد أن كانت مغبرّةً ، مُعْشِبة بعد أن كانت مجدبة ، قد كُسيت ألوانا من نبات عشب نضرة زاهرة مزيّنةٍ معاشا للناس والأنعام .
فإذا أفرغ الغمام ماءه ، أقلع وتفرّق وذهب حيث لا يعاين ، ولا يدري أين توارى ، فأدّت العين ذلك إلى القلب ، فعرف القلب أنّ ذلك السحاب لو كان بغير مدبّر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء ، وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفا فرسخٍ أو أكثرَ ، ولأرسله فيما هو أقرب من ذلك ، ولما أرسله قطرةً بعد قطرة، بل كان يرسله إرسالاً ، فكان يهدم البنيان ، ويفسد النبات ، ولما جاز إلى بلد وترك آخَرَ دونه ، فعرف القلب بالأعلام المنيرة الواضحة أنّ مدبّر الاُمور واحد ، وأنّه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان طولَ هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلافٌ في التدبير ، وتناقض في الاُمور ، ولتأخّر بعض ما تقدّم ، وتقدّم بعض ما تأخّر ، ولكان تسفل بعض ما قد علا ، ولعلا بعض ما قد سفل ، ولطلع شيء وغاب ، فتأخّر عن وقته ، أو تقدّم ما

1.الهَصْر: الكسر. لسان العرب، ج ۵، ص ۲۶۴ (هصر).


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
200

فعرف القلب بدلالة العين أنّ مدبّر الأرض هو مدبّر السماء .
ثمّ سمعت الاُذن صوت الرياح الشديدة العاصفة والليّنة الطيّبة ، وعاينت العين ما يُقلع من عظام الشجر ، ويهدم من وثيق البنيان ، وتسفى من ثقال الرياح ، تخلّى منها ناحية وتصبّها في اُخرى بلا سائق تبصره العين ، ولا تسمعه الاُذن ، ولا يدرك بشيءٍ من الحواسّ ، وليست مجسّدة تلمس ، ولا محدودة تعاين ، فلم تزد العين وسائر الحواسّ على أن دلّت القلبَ أنّ لها صانعا ، وذلك أنّ القلب يفكّر بالعقل الذي فيه ، فيعرف أنّ الريح لم تتحرّك من تلقائها ، وأنّها لو كانت هي المتحرِّكةَ لم تكفف عن التحرّك ، ولم تهدم طائفة وتعفى اُخرى ، ولم تقلع شجرة وتَدع اُخرى إلى جنبها ، ولم تُصِب أرضا وتنصرف عن اُخرى .
فلمّا تفكّر القلب في أمر الرِّيح ، علم أنّ لها محرِّكا هو الذي يسوقها حيث يشاء ، ويسكنها إذا شاء ، ويُصيب بها من يشاء ، ويصرفها عمّن يشاء .
فلمّا نظر القلب إلى ذلك ، وجدها متّصلةً بالسماء وما فيها من الآيات ، فعرف أنّ المدبّر القادر على أن يمسك الأرض والسماء هو خالق الريح ومحرّكها إذا شاء، وممسكها كيف شاء ، ومسلّطها على من شاء ، وكذلك دلّت العين والاُذن والقلب على هذه الزلزلة ، وعرف ذلك بغيرهما من حواسّه حين حرّكته ، فلمّا دلّ الحواسّ على تحريك هذا الخلق العظيم من الأرض في غِلَظِها وثِقَلها وطولها وعرضها وما عليها من ثقل الجبال والمياه والأنعام وغير ذلك ـ وإنّما تتحرّك في ناحية [ولم تتحرّك في ناحية ]اُخرى، وهي ملتحمة جسدا واحدا وخلقا متّصلاً بلا فصل ولا وصل ، تهدم ناحية وتخسف بها وتسلم اُخرى ـ فعندها عرف القلب أنّ محرّك ما حرّك منها هو ممسك ما أمسك منها ، وهو محرّك الريح وممسكها ، وهو مدبّر السماء والأرض وما بينهما ، وأنّ الأرض لو كانت هي المزلزلةَ لنفسها لم تقع زلزلتها ، ولم تسكن رجعتها ، ولو كانت هي المتمسّكةَ لما تزلزلت ولما تحرّكت ، ولكنّ الذي دبّرها وخلقها حرّك منها ما شاء .
ثمّ نظرت العين إلى العظيم من الآيات من السحاب المسخّر بين السماء والأرض

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 127988
صفحه از 637
پرینت  ارسال به