وأمّا فساد الشقّ الثاني ، فهو ظاهر عند جمهور الناس ؛ لما حكوا بالفطرة من أنّ الضعف ينافي الأولويّة ، ولظهوره لم يذكره عليه السلام .
وأيضا يعلم فساده بفساد الشقّ الثالث وهو قوله : «وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ، ثبت أنّه أي الإله واحدٌ ـ كما نقول ـ للعجز الظاهر في المفروض ثانيا ؛ لأنّ الضعف منشأ العجز ، والعاجز لا يكون إلها بل مخلوقا [محتاجا] لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوّة والكمال والخيريّة .
وأمّا الحجّة البرهانيّة ، فأشار إليها بقوله : «فإن قلت إنّهما اثنان» وبيانه أنّه لو فرض موجودان قديمان ، فإمّا أن يتّفقا من كلّ جهةٍ ، أو يختلفا من كلّ جهة ، أو يتّفقا بجهة ويختلفا باُخرى .
والكلّ محال : أمّا بطلان الأوّل ، فلأنّ الاثنينيّة لا تتحقّق إلّا بامتياز أحد الاثنين من صاحبه ولو بوجه من الوجوه . وأمّا بطلان الثاني فلما نبّه عليه بقوله : «فلمّا رأينا الخلق منتظما» وتقريره أنّ العالم كلّه كشخص واحد كثير الأجزاء والأعضاء مثل الإنسان ؛ فإنّا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصّة وأفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض ، ويفتقر بعضها إلى بعض، وكلّ منهما يعين بطبعه صاحبَه ، وهكذا نشأ هذه الأجرام العالية ، وما ارتكز فيها ـ من الكواكب النيّرة في حركاتها الدوريّة وأضوائها الواقعة منها ـ نافعة للسفليّات ، محصّلة لأمزجة المركّبات التي يتوقّف عليها صور الأنواع ونفوسها ، وحياة الكائنات ، ونشوء الحيوانات والنبات .
فإذا تحقّق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام واتّصال التدبير دَلَّ على أنّ المدبّر واحد .
وأمّا بطلان الشقّ الثالث ـ وهو أنّهما متّفقان من وجه ومختلفان من وجه آخر ـ فبأن يقال كما أشار إليه عليه السلام بقوله : «ثمّ يلزمك»: إنّه لابدّ فيهما من شيء يمتاز به أحدهما عن صاحبه وصاحبه عنه ؛ وذلك الشيء يجب أن يكون أمرا وجوديّا يوجد في أحدهما ولم يوجد في الآخر ، أو أمران وجوديّان يختصّ كلّ منهما بواحد فقط .
وأمّا كون الفارق المميّز لكلّ منهما عن صاحبه أمرا عدميّا ، فهو ممتنع بالضرورة ؛ إذ الأعدام بما هي أعدام لا تمايز بينها ولا تمييز بها ، فإذا فرض قديمان فلا أقلّ من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما ويسلب عن الآخر ، وهو أيضا لا محالة قديم موجود معهما ،