347
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

قوله : (خَلَقَ اللّهُ المشيّةَ بنفسها ، ثمّ خَلَقَ الأشياءَ بالمشيّةِ) . [ح ۴ / ۳۰۴]
اعلم أنّ الفاضل المحقّق صاحب البحار قد استقصى الكلام في هذا الحديث ، قال :
هذا الخبر هو من غوامض الأخبار يحتمل وجوها من التأويل :
الأوّل : أن [لا] يكون المراد بالمشيّة الإرادة ، بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة الكاملة جعلَها من أسباب وجود شيء ، كالتقدير في اللوح ـ مثلاً ـ والإثبات فيه ؛ فإنّ اللوح وما اُثبت فيه لم يحصل بتقديرٍ آخَرَ في لوح سوى ذلك اللوح، وإنّما وجد سائر الأشياء بما قدّر في ذلك اللوح . وربّما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار، كما يأتي في كتاب العدل . وعلى هذا المعنى يُحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير .
الثاني : أن يكون خلق المشيّة بنفسها كنايةً عن كونها لازمةً لذاته تعالى ، غيرَ متوقّفة على تعلّق إرادة اُخرى بها ، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها ، منتزعةً عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اُخرى ، أو أنّه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل وحكمته الشاملة كونَ جميع الأشياء حاصلةً بالعلم بالأصلح ، فالمعنى أنّه لمّا اقتضى كمالُ ذاته أن لا يصدر عنه شيء إلّا على وجه الأصلح والأكمل ، فلذلك لا يصدر عنه شيء ، أو بالإرادة المقتضية لذلك .
الثالث : ما ذكره السيّد الداماد ـ قدّس اللّه روحه ـ : أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختياريّة ؛ لتقدّسه سبحانه عن مشيّة مخلوقةٍ زائدةٍ على ذاته عزّوجلّ ، وبالأشياء أفاعيلهم المرتّب وجودها على تلك المشيّة . وبذلك تنحلّ شبهةٌ ربّما اُوردت هاهنا وهي : أنّه لو كانت أفعال العباد مسبوقةً بإرادتهم لكانت الإرادة مسبوقةً بإرادة اُخرى ، وتسلسلت الإرادات لا إلى نهاية .
الرابع : ما ذكره بعض الأفاضل، وهو أنّ للمشيّة معنيين :
أحدهما متعلّق بالشائي ، وهي صفة كماليّة قديمة هي نفس ذاته سبحانه ، وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح .
والآخَر ما يتعلّق بالمَشيء ، وهو حادث بحدوث المخلوقات لا يتخلّف المخلوقات عنه ، وهو إيجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره ، وليست صفةً زائدةً على ذاته عزّوجلّ


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
346

الحاصل لهم من المعاشرات والمعادات واكتساب العلوم والأخلاق الفطريّة المزاجيّة والمكتسبة ، وحالة شوقيّة تنبعث من القلب ، ويهيج بعد ذلك الاعتقادُ وتحمل على جلبه ، و«من الفعل» بيان ل «ما» . والمراد به معناه المصدري لا المفعول ؛ أي بما يستقرّ من رأيهم من فعل شيء اعتقدوا خيريّته ومرجوحيّة تركه في نظرهم ، وهذا الفعل هو الذي عبّر عليه السلام عنه حين نسبه إلى اللّه تعالى بالإحداث ، فكأنّه عليه السلام يقول : الإرادة من الخلق مجموع التروية والإحداث ، ومن اللّه تعالى مجرّد الإحداث .
فإن قلت : كيف قال عليه السلام : «لا غير» مع أنّ للعلم الأزلي بأنّ ما يوجد خير ـ أي غير مضادّ للحكمة الكاملة كما سبق بيانه ـ دخلاً عظيما ، بل هو الأحقّ باسم الإرادة ، وقد قال اللّه تعالى : «يَفْعُلُ اللّهُ ما يَشَاءُ»۱ و «يَحْكُمُ مَا يُرِيُد»۲ ؟
قلت : المراد المتجدّد من الإرادة ، وبيان أنّ المتجدّد من المخلوق كلا الأمرين ، ومن اللّه هو الأخير لا غير ، وما جوّزه السيّد قدس سره من عطف الجملة على الجملة مجرّد إبداء احتمال ، والسياق يأباه خصوصا قوله عليه السلام : «لا غير» .
في البحار :
اعلم أنّ إرادة اللّه تعالى ـ كما ذهب إليه متكلِّموا الإماميّة ـ هي العلم بالخير والنفع وما هو الأصلح ، ولا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا . ولعلّ المراد بهذا الخبر وأمثاله من الأخبار الدالّة على حدوث الإرادة هو أن يكون في الإنسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النفع فيه ، ثمّ الرويّة ، ثمّ الهمّة ، ثمّ انبعاث الشوق منه ، ثمّ تأكّده إلى أن يصير إجماعا باعثا على الفعل ؛ وذلك كلّه إرادة فينا متوسّطة بين ذاتنا وبين الفعل ، وليس فيه تعالى سوى العلم القديم بالمصلحة من الاُمور المقارنة للفعل سوى الإحداث والإيجاد ، فالإحداث في الوقت الذي يقتضي المصلحة وقوعَ الفعل فيه قائم مقام ما يحدث من الاُمور في غيره تعالى ، فالمعنى أنّ ذاته تعالى بصفاته الذاتيّة الكماليّة كافية في حدوث الحادث ، من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل . ۳

1.إبراهيم (۱۴) : ۲۷ .

2.المائدة (۵) : ۱ .

3.بحار الأنوار ، ج ۴ ، ص ۱۳۷ .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 103647
صفحه از 637
پرینت  ارسال به