قوله : (خَلَقَ اللّهُ المشيّةَ بنفسها ، ثمّ خَلَقَ الأشياءَ بالمشيّةِ) . [ح ۴ / ۳۰۴]
اعلم أنّ الفاضل المحقّق صاحب البحار قد استقصى الكلام في هذا الحديث ، قال :
هذا الخبر هو من غوامض الأخبار يحتمل وجوها من التأويل :
الأوّل : أن [لا] يكون المراد بالمشيّة الإرادة ، بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة الكاملة جعلَها من أسباب وجود شيء ، كالتقدير في اللوح ـ مثلاً ـ والإثبات فيه ؛ فإنّ اللوح وما اُثبت فيه لم يحصل بتقديرٍ آخَرَ في لوح سوى ذلك اللوح، وإنّما وجد سائر الأشياء بما قدّر في ذلك اللوح . وربّما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار، كما يأتي في كتاب العدل . وعلى هذا المعنى يُحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير .
الثاني : أن يكون خلق المشيّة بنفسها كنايةً عن كونها لازمةً لذاته تعالى ، غيرَ متوقّفة على تعلّق إرادة اُخرى بها ، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها ، منتزعةً عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اُخرى ، أو أنّه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل وحكمته الشاملة كونَ جميع الأشياء حاصلةً بالعلم بالأصلح ، فالمعنى أنّه لمّا اقتضى كمالُ ذاته أن لا يصدر عنه شيء إلّا على وجه الأصلح والأكمل ، فلذلك لا يصدر عنه شيء ، أو بالإرادة المقتضية لذلك .
الثالث : ما ذكره السيّد الداماد ـ قدّس اللّه روحه ـ : أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختياريّة ؛ لتقدّسه سبحانه عن مشيّة مخلوقةٍ زائدةٍ على ذاته عزّوجلّ ، وبالأشياء أفاعيلهم المرتّب وجودها على تلك المشيّة . وبذلك تنحلّ شبهةٌ ربّما اُوردت هاهنا وهي : أنّه لو كانت أفعال العباد مسبوقةً بإرادتهم لكانت الإرادة مسبوقةً بإرادة اُخرى ، وتسلسلت الإرادات لا إلى نهاية .
الرابع : ما ذكره بعض الأفاضل، وهو أنّ للمشيّة معنيين :
أحدهما متعلّق بالشائي ، وهي صفة كماليّة قديمة هي نفس ذاته سبحانه ، وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح .
والآخَر ما يتعلّق بالمَشيء ، وهو حادث بحدوث المخلوقات لا يتخلّف المخلوقات عنه ، وهو إيجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره ، وليست صفةً زائدةً على ذاته عزّوجلّ