361
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

أقول : لا يخفى أنّ هذا الوجه وما أوردته سابقا ـ من الاحتمالات التي سمحت بها قريحتي القاصرة ـ لا يخلو كلّ منها من تكلّف ، وقد قيل فيه وجوهٌ اُخر أعرضت عنها ؛ لعدم موافقتها لاُصولنا .
والأظهر عندي أنّ هذا الخبر موافق لما مرّ، وسيأتي في كتاب العدل من أنّ المعرفة من صنعه تعالى ، وليس للعباد فيها صنع ، وأنّه تعالى يهبها لمن طلبها ، ولم يقصر فيما يوجب استحقاق إفاضتها ، والقول بأنّ غيره تعالى يقدر على ذلك نوعٌ من الشرك في ربوبيّته وإلهيّته ؛ فإنّ التوحيد الخالص هو أن يعلم أنّه تعالى مفيض جميع العلوم والخيرات والمعارف والسعادات ، كما قال تعالى : «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»۱ .
فالمراد بالحجاب إمّا أئمّة الضلال وعلماء السوء الذين يدّعون أنّهم يعرفون اللّه بعقولهم، ولا يرجعون في ذلك إلى حجج اللّه ؛ فإنّهم حجب يحجبون الخلق عن معرفته وعبادته ، فالمعنى أنّه تعالى إنّما يعرف بما عرّف به نفسه للناس ، لا بأفكارهم وعقولهم ، وأئمّة الحقّ أيضا ؛ فإنّهم ليس شأنهم إلّا بيانَ الحقّ للناس ، فأمّا إفاضة المعرفة والإيصال إلى البُغية فليس إلّا من الحقّ سبحانه ، كما قال سبحانه : «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ»۲ .
ويجري في الصورة والمثال ما مرَّ من الاحتمالات ، فقوله عليه السلام : «ليس بين الخالق والمخلوق شيء» أي ليس بينه وبين خلقه حقيقة أو مادّة مشتركة حتّى يمكنهم معرفتُه من تلك الجهة ، بل أوجدهم لا من شيء كان .
قوله عليه السلام : «غير الواصف» يحتمل أن يكون المراد بالواصف الاسمَ الذي يصف الذات بمدلوله .
قوله : «فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف» أي لا يؤمن أحد باللّه إلّا بعد معرفته ، والمعرفة لا تكون إلّا منه ، فالتعريف من اللّه ، والإيمان والإذعان وعدم الإنكار من الخلق .
ويُحتمل أن يكون المراد على بعض الوجوه السابقة بيانَ أنّه وإن لم يعرف بالكنه لكن لا يمكن الإيمان إلّا بعد معرفته بوجه من الوجوه ، فيكون المقصود نفيَ التعطيل. والأوّل أظهر .

1.النساء(۴) : ۷۹ .

2.القصص(۲۸) : ۵۶ .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
360

قوله : «ولم يتناه» أي هو تعالى في المعرفة ، أو عرفانه، أو العارف في عرفانه إلى نهاية إلّا كانت تلك النهاية غيره تعالى ومباينة له غير محمولة .
قوله عليه السلام : «لا يزل» في بعض النسخ بالذال ، أي ذلّ الجهل والضلال ، من فهم هذا الحكم، وعرف سلب جميع ما يغايره عنه ، وعلم أنّ كلّ ما يصل إلى أفهام الخلق فهو غيره تعالى .
قوله عليه السلام : «ومن زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب» أي بالأسماء التي هي حُجب بين اللّه وبين خلقه ووسائل بها يتوسّلون إليه ، بأن زعم أنّه عين تلك الأسماء ؛ والأنبياء ۱ والأئمّة عليهم السلام بأن زعم أنّ الربّ تعالى اتّحد بهم ؛ أو بالصفات الزائدة ، فإنّها حجب عن الوصول إلى حقيقة الذات الأحديّة ، أو بصورة ، أو بأنّه ذو صورة كما قالت المشبّهة ، أو بصورة عقليّة زعم أنّها كُنه ذاته وصفاته تعالى ، أو بمثال أي خيالي ، أو بأن جعل له مماثلاً ومشابها عن خلقه ، فهو مشرك ؛ لما عرفت مرارا من لزوم تركّبه تعالى وكونه ذا حقائقَ مختلفةٍ وذا أجزاء ؛ تعالى اللّه عن ذلك .
ويُحتمل أن يكون إشارةً إلى أنّه لا يمكن الوصول إلى حقيقته تعالى بوجه من الوجوه، لا بحجاب رسول يبيّن ذلك ، ولا بصورة عقليّة ولا خياليّة ؛ إذ لابدّ بين المعرَّف والمعرِّف من المماثلة وجهة اتّحاد ، وإلّا فليس ذلك الشيء معرّفا أصلاً ، واللّه تعالى مجرّد الذات عن كلّ ما سواه ، فحجابه ومثاله وصورته غيره من كلّ وجه ؛ إذ لا مشاركة بينه وبين غيره في جنس أو فصل أو مادّة أو موضوع أو عارض ، وإنّما هو واحد موحّد فرد عمّا سواه ، وإنّما يُعرف اللّه باللّه إذا نفي عنه جميع ما سواه ، وكلّ ما وصل إليه عقله كما مرّ أنّه التوحيد الخالص .
وقال بعض المحقّقين : من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال ، أي بحقيقة من الحقائق الإمكانيّة كالجسم والنور ، أو بصفة من صفاتها التي هي عليها كما اُسند إلى القائلين بالصورة ، أو بصفة من صفاتها عند حصولها في العقل ـ كما في قول الفلاسفة في رؤية العقول المفارقة ـ فهو مشرك ؛ لأنّ الصورة والحجاب والمثال كلّها مغايرة غيرُ محمول ، فمن عبد الموصوف بها عبد غيره ، فكيف يكون موحّدا له عارفا به ، إنّما عرف اللّه من عرفه بذاته وحقيقته المسلوب عنه جميع ما يغايره ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يكون يعرف غيره .

1.في المصدر : «أو الأنبياء».

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 103644
صفحه از 637
پرینت  ارسال به