445
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

وزين السماوات والأرض ، وجمال السماوات والأرض ، وعماد السماوات والأرض . وإلى هؤلاء الأجلّاء صدر الخطاب في قوله تعالى : «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ»۱ ، ولهذا غيّر الاُسلوب عن الغيبة إلى الخطاب ، فهو سبحانه شهيد على التجلّي فيه والظهور ، وليس في قوّة العالم أن يدفع عن نفسه هذا الظاهر فيه ، ولا أن يكون مظهرا ؛ إذ هذا هو معنى الإمكان على التحقيق التامّ ، فلو دفع لكان مسلوبا عن نفسه ولو لم يكن حقيقة العالم الإمكانَ لما قبل نورَ الحقّ وظهورَ آثاره .
وفي النسخ «لِما تجلّي» باللام الجارّة و«ما» المصدريّة ، فيكون متعلّقا بقوله : «دلّت» و«أعربت» والمعنى: أفصحت عن اللّه لأجل تجلّي صانعها للعقول بواسطة هذه الأشياء؛ إذ هي مرايا ظهوره ، وبها احتجب عن الرؤية ، كما أنّ اللّه جلّ جلاله ظهر بالأشياء وفي الأشياء ، كذلك اختفى بها عنها ، وليس ذلك إلّا اعتبارا بالأشياء ، ولذا قيل: بطن ما ظهر .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام : «لا يجنّه البطون عن الظهور» . ۲
وعن بعض العرفاء : العجب كلُّ العجب أنّه تعالى ما ظهر بشيء من مظاهر أفعاله إلّا وقد احتجب به ، فسبحانه من احتجب بنور ظهوره ، وظهر بإسداله ستره . انتهى .
وقيل في الشعر : «بدت باحتجاب واختفت بمظاهر» .
وقيل أيضا :

لقد ظهرت فلا تخفى على أحدإلّا على أكمهَ لا يعرف القمرا
لكن بطنت بما أظهرت محتجباوكيف يعرف مَن بالعرف استترا
هذا الذي قلنا إنّما هو على تقدير أن يكون الضمير في «بها» راجعا إلى «الأشياء» ويُحتمل أن يكون راجعا إلى «العقول» والمعنى : أنّ اللّه تعالى احتجب عن الرؤية بسبب العقول ؛ إذ ما دام الإنسان يعقل نفسه ويثبت وجودا و شيئيّة لذاته ، فهو بعيد عن رؤية اللّه تعالى ، بل عن رؤية ذكر اللّه ، كما قال عزّ شأنه : «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ»۳ .
«وإليه تحاكم الأوهام» أي إنّ تحاكم الأوهام وتنازعها إنّما ينتهي إلى الأشياء ، ولا يصل إلى اللّه سبحانه ؛ إذ الأوهام إنّما تحكم على ما يتصوّره من الأشياء المعروفة عندها ، واللّه

1.فصّلت (۴۱) : ۵۳ .

2.نهج البلاغة ، ص ۳۰۹ ، الخطبة ۱۹۵ .

3.الكهف (۱۸) : ۲۴ .


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
444

الأشياء ، والقدمةُ والأزليّة والتكملة مفعولاتها الثواني .
و«جنّبتها» على صيغة التفعيل ، والتجنّيب جعل الشيء في جانب . والمعنى : منعت كلمة «منذ» ـ أي إطلاقها عليها ـ عن أن يكون الأشياء قديمةً ؛ إذ منذ تدلّ على الابتداء، والقدمُ ينافي الابتداء .
«حمت» أي دفعت كلمة «قد» التقريبيّة الأشياءَ عن الأزليّة بمعنى أنّ إطلاق «قد» على الأشياء دفعتها عن مرتبة الأزل ؛ إذ التقريب إنّما هو بالنسبة إلى الزمان .
و«جنّبتها» أي جعلت الأشياء في جانب عن الكمال كلمةُ «لولا» التحضيضيّة ؛ إذ التحريض على الشيء إنّما يكون لفاقده ؛ أو كلمة «لولا» الامتناعيّة حيث تطلق على الأشياء بأنّه لولا ذلك المانع لوصل هذا الشيء إلى كماله .
وبالجملة لما صحّ هذا الإطلاق هذه الأدوات على الأشياء الممكنة إزالتها عن المراتب العالية من القدمة والأزليّة والكمال والتماميّة «افترقت فدلّت على معرفتها، وتباينت فأعربت عن مباينها».
أعربت، أي أفصحت . والمباين على صيغة الفاعل ، وهو جاعل البينونة وموجد المباينة ، كما سبق في المفاوت . وقد عرفت وجه تلك الدلالة ، وهذا الإفصاح بها تجلّى صانعها للعقول ، أي بوساطة خلق الأشياء تجلّى صانعها للعقول حيث ترى العقول تلك الأشياءَ مظاهرَ صنع اللّه ، ومزايا نوره ، وجلايا ظهور أسمائه وصفاته، فتستدلّ بها على اللّه وصفاته وأسمائه ؛ إذ بالآثار والأعلام إنّما يستدلّ عليه تعالى وعلى أسمائه الحسنى ، وهؤلاء القوم اُشير إليهم في قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْافَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»۱ .
وأمّا العارفون بنور اللّه عزّ شأنه ، الفائزون بالمحبوبيّة التامّة ، فيقولون ـ كما ورد في دعاء عرفة عن سيّد الشهداء عليه ألف سلام وتحيّة وثناء ـ : «كيف يستدلّ عليه بما هو في وجوده مفتقر إليك ألغيرك ۲ من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهرَ لك ؟». ۳
فهؤلاء لم يروا في الوجود إلّا اللّه ، وما رأوا شيئا إلّا ورأوا اللّه قبله ؛ إذ الأعيان إنّما هي في خفائها واستتارها ، وإنّما المظهِر لها والدليل عليها هو اللّه نور السماوات والأرض ،

1.الإقبال ، ص ۳۴۹ ؛ بحار الأنوار ، ج ۶۷ ، ص ۱۴۲ .

2.فصّلت (۴۱) : ۵۳ .

3.في المصدر : «أيكون لغيرك» .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 103597
صفحه از 637
پرینت  ارسال به