أمسكت طير الماء عن الماء ساعةً ماتت؟ فلا أرى الحواسّ في هذا إلّا منكسرا عليك، ولا ينبغي ذلك أن يكون إلّا من مدبّرٍ حكيمٍ جعل للماء خَلقا وللبرّ خَلقا.
أم أخبرني ما بال الذرّة التي لا تعاين الماء قطّ تُطرح في الماء وتسبح، وتلقى الإنسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال و أعقلهم لم يتعلّم السباحة فيغرق؟ كيف لم يدلّه عقله و لبّه وتجاربه و بصره بالأشياء مع اجتماع حواسّه و صحّتها أن يدرك ذلك بحواسّه ، كما أدركته الذرّة إن كان ذلك إنّما يُدرك بالحواسّ؟
أفليس ينبغي لك أن تعلم أنّ القلب الذي هو معدن العقل في الصبيّ الذي وصفت وغيره ممّا سمعت من الحيوان، هو الذي يهيّج الصبيّ إلى طلب الرضاع، والطير اللاقط على لقط الحبّ، والسباع على ابتلاع اللحم».
وقال عليه السلام بعد كلام: «لأنّ اللّه تبارك وتعالى جعل القلب مدبّرا للجسد، به يسمع ، وبه يبصر، وهو القاضي والأمير عليه، لايتقدّم الجسد إن هو تأخّر، ولايتأخّر إن هو تقدّم، وبه سمعت الحواسّ وأبصرت، إن أمرها ائتمرت، وإن نهاها انتهت، وبه ينزل الفرح والحزن، وبه ينزل الألم، إن فسد شيء من الحواسّ بقي على حاله، وإن فسد القلب ذهبت جميعا ۱ حتّى لايسمع ولايبصر». ۲
انتهى ما أردنا نقله من كتاب الإهليلجة، وسيجيء في كتاب الإيمان والكفر في باب أنّ الإيمان مبثوث بجوارح البدن : «فليس من جوارحه جارحةٌ إلّا وقد وُكِّلَتْ من الإيمان بغير ما وُكِّلت به اُخْتُها، فمنها قلبُه الذي به يَعقِلُ ويَفْقَه ويفهم، وهو أميرُ بدنه الذي لاتَرِدُ الجوارحُ ولاتَصدُرُ إلّا عن رأيه وأمره» الحديث. ۳ وقد ذكر في موضعين من الباب المذكور بسندين. ۴
هذا ومحصّل الدليل أنّ الحكمة البالغة أبت أن يقع الخلق في شُبهةٍ من جهة الخلقة، ولمّا كان النظام الواقع ـ الذي هو أعلى النظام ـ على وجهٍ يلزمه ثوران الفتن والشبهات بتصادف الأهواء وتصادم الاختيارات، مَنَّ الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم ـ تعالى