481
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

أمسكت طير الماء عن الماء ساعةً ماتت؟ فلا أرى الحواسّ في هذا إلّا منكسرا عليك، ولا ينبغي ذلك أن يكون إلّا من مدبّرٍ حكيمٍ جعل للماء خَلقا وللبرّ خَلقا.
أم أخبرني ما بال الذرّة التي لا تعاين الماء قطّ تُطرح في الماء وتسبح، وتلقى الإنسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال و أعقلهم لم يتعلّم السباحة فيغرق؟ كيف لم يدلّه عقله و لبّه وتجاربه و بصره بالأشياء مع اجتماع حواسّه و صحّتها أن يدرك ذلك بحواسّه ، كما أدركته الذرّة إن كان ذلك إنّما يُدرك بالحواسّ؟
أفليس ينبغي لك أن تعلم أنّ القلب الذي هو معدن العقل في الصبيّ الذي وصفت وغيره ممّا سمعت من الحيوان، هو الذي يهيّج الصبيّ إلى طلب الرضاع، والطير اللاقط على لقط الحبّ، والسباع على ابتلاع اللحم».
وقال عليه السلام بعد كلام: «لأنّ اللّه تبارك وتعالى جعل القلب مدبّرا للجسد، به يسمع ، وبه يبصر، وهو القاضي والأمير عليه، لايتقدّم الجسد إن هو تأخّر، ولايتأخّر إن هو تقدّم، وبه سمعت الحواسّ وأبصرت، إن أمرها ائتمرت، وإن نهاها انتهت، وبه ينزل الفرح والحزن، وبه ينزل الألم، إن فسد شيء من الحواسّ بقي على حاله، وإن فسد القلب ذهبت جميعا ۱ حتّى لايسمع ولايبصر». ۲
انتهى ما أردنا نقله من كتاب الإهليلجة، وسيجيء في كتاب الإيمان والكفر في باب أنّ الإيمان مبثوث بجوارح البدن : «فليس من جوارحه جارحةٌ إلّا وقد وُكِّلَتْ من الإيمان بغير ما وُكِّلت به اُخْتُها، فمنها قلبُه الذي به يَعقِلُ ويَفْقَه ويفهم، وهو أميرُ بدنه الذي لاتَرِدُ الجوارحُ ولاتَصدُرُ إلّا عن رأيه وأمره» الحديث. ۳ وقد ذكر في موضعين من الباب المذكور بسندين. ۴
هذا ومحصّل الدليل أنّ الحكمة البالغة أبت أن يقع الخلق في شُبهةٍ من جهة الخلقة، ولمّا كان النظام الواقع ـ الذي هو أعلى النظام ـ على وجهٍ يلزمه ثوران الفتن والشبهات بتصادف الأهواء وتصادم الاختيارات، مَنَّ الحكيم الخبير الرؤوف الرحيم ـ تعالى

1.في المصدر : «جميعها».

2.بحارالأنوار، ج ۳، ص ۱۵۹ ـ ۱۶۲؛ و ج ۶۱ ، ص ۵۵ ـ ۶۱ ، ح ۴۵.

3.الكافي، ج ۲، ص ۳۳، ح ۱.

4.المصدر، ح ۷.


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
480

والأظهر أنّ شكّ الحواسّ والردّ إلى القلب كناية عن احتياجها في الإدراك إليه و كون معرفتها به. قال الصادق عليه السلام في الكتاب المشتهر بالإهليلجة مخاطبا للطبيب الذي أنكر وجود غير المحسوس:
«أمّا إذ أبيت إلّا الجهالة ، و زعمت أنّ الأشياء لا تدرك إلّا بالحواسّ، فإنّي اُخبرك أنّه ليس للحواسّ دلالة على الأشياء ، ولا فيها معرفة إلّا بالقلب؛ فإنّه دليلها و معرّفها الأشياء التي تدّعي أنّ القلب لايعرفها إلّا بها.
فقال: أمّا إذ نطقت بهذا، فما أقبل منك إلّا بالتخليص والتفحيص منه بإيضاحٍ وبيانٍ وحجّةٍ وبرهانٍ.
قلت: فأوّل ما أبدأ به أنّك تعلم أنّه ربما ذهبت الحواسّ أو بعضها، ودبر القلب للأشياء التي فيها المضرّة والمنفعة من الاُمور العلانية والخفيّة، فأمر بها ونهى، فنفذ فيها أمره، وصحّ فيها قضاؤه.
قال: إنّك تقول في هذا قولاً يشبه الحجّة، ولكنّي اُحبّ أن توضحه لي غير هذا الإيضاح.
قلت: ألست تعلم أنّ القلب يبقى بعد ذهاب الحواسّ؟
قال: نعم، يبقى بغير دليل على الأشياء التي تدلّ عليها الحواسّ.
قلت: أفلست تعلم أنّ الطفل تضعه اُمّه مضغةً ليس تدلّه الحواسّ على شيءٍ يسمع ولايبصر ولا يُذاق ولا يلمس؟ ۱
قال: بلى.
قلت: فأيّة الحواسّ تدلّه ۲ على طلب اللبن إذا جاع، والضحك بعد البكاء إذا روى من اللبن؟ وأيّ حواسّ سباع الطير ولاقط الحبّ ، منها دلّها على أن تلقي بين أفراخها اللحم والحبّ، فتهوي ۳ سباعها إلى اللحم والآخرون إلى الحبّ؟ وأخبرني عن فراخ طير الماء؛ ألست تعلم أنّ فراخ طير الماء إذا طُرحت فيه سبحت، و إذا طُرحت [فيه] فراخ طير البرّ غرقت، والحواسّ واحدة ، فكيف انتفع بالحواسّ طير الماء وأعانته على السباحة ، ولم ينتفع طير البرّ في الماء بحواسّها؟ وما بال طير البرّ إذا غمستها في الماء ساعةً ماتت، وإذا

1.في المصدر : + «ولايشمّ».

2.في المصدر : «دلّته».

3.في المصدر : «فتأوي».

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 127263
صفحه از 637
پرینت  ارسال به