للمخاطبين واستهانةً بالدنيا وسلطانها، وتعريضا بأنّ هذا الإيتاء ليس من باب اللطف والرحمة ، بل من باب الاستدراج والإملاء ، كما قال عزّ من قائل : «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ»۱ وقال : «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»۲ .
مع ما في هذا الإسناد من الإشارة إلى أنّهم لم يكونوا مفوّضين بحيث يمكنهم أن يصيروا بمجرّد إعطاء القدرة مستطيعين لمخالفة مشيّة اللّه العزميّة، أي أوامره ونواهيه ، بل أزمّة الاُمور كلّها بيد جبروته، لا يستطيع أحد فعلاً : طاعة كانت أو معصية، أي لا يتمّ علّيّته لذلك الفعل إلّا بمشيّة اللّه الحتميّة التي هي إكمال جميع ما يتوقّف عليه هيجان إرادة العبد وتحقّق المراد، فلا يكون الإقدار موجبا للخروج عن سلطان الملك الجبّار طرفة عين.
وقوله عليه السلام : (واحدةٌ مُقَدِّمِةٌ) . [ح ۱ / ۶۴۵]
الأظهر عندي أنّ تأنيث «واحدة» على أنّها صفة لمصيبة، أي المذكورة في الآية السابقة، أعني قوله تعالى : «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنْفُسِكُمْ إِلَا فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»۳ الآية ، فكأنّه عليه السلام يقول : إنّ الفقرة الاُولى إشارة إلى وقوع مصيبة متعلّقة بنا في الدنيا رحمة لنا ، والثانية إشارة إلى وقوع مصيبةٍ متعلّقة بهم في الآخرة غضبا عليهم، واحدة من المصيبتين مقدّمة ، وهي استدراج اللّه إيّاهم المنشأ لتسلّطهم علينا وغصب حقوقنا بسوء اختيارهم ، المستند إلى خبث طينتهم واستحقاقهم بذلك للعذاب الدائم ، وواحدة مؤخّرة ، وهي مصيبتنا المتأخّرة على ذلك الاستدراج .
ويحتمل أن يكون التأنيث باعتبار موصوف مقدّر ، أي حكومة واحدة مقدّمة ، وهي التي جعلها اللّه تعالى لعليّ عليه السلام يوم أخذ الميثاق ويوم الغدير ، وحكومة اُخرى مؤخّرة ، وهي التي آتاهم اللّه تعالى بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله استدراجا ؛ نعوذ باللّه من ذلك .