وانحلال هذا الإشكال بتذكرّ ما سبق في كتاب التوحيد وحواشينا الرافعة لغواشيه ، والذي نقول هاهنا : أنّ إخبار اللّه تعالى لجبرئيل بشيء قد يكون بإثبات ذلك الشيء في لوح مخصوص هو أعلم بحقيقته ، والأمرِ بتنزّل جبرئيل عليه السلام به على رسوله ، وربما يمحو ذلك المثبت بعد التنزّل به كما قال عزّوجلّ : «يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ»۱ وذلك المحو للإيذان بأنّ الشيء لا يتمّ له الوجود في الأعيان ، والإثبات المشعر بأنّه سيقع لِحِكَم كثيرة يعلم بعضها بإخبار الصادقين عليهم السلام ، وذلك المحو والإثبات هو البداء الذي القول به من ضروريّات مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وإذ ثبت جواز محو بعض ما ثبت ، فليس كلّ ما في ذلك اللوح ممّا شاء بالمشيّة الحتميّة التي لا يقع شيء في حيطة التحقّق ، فعلاً كان أو تركا ، طاعة كانت أو معصية إلّا بها كما سبق تحقيقه ، فما أخبر به جبرئيل عليه السلام تحقّقه تحت سلطان المشيّة ، فيمكن أن يقع فيه البداء ، وإن كان ظاهرُ الإخبار ـ بالكسر ـ أنّه سيتحقّق.
إذا تمهّد ذلك فنقول: غاية الأمر ـ بناء على هذه الاُصول الأصيلة ـ أنّهم عليهم السلام كانوا عالمين بشهاداتهم على الوجه المعيّن علما مستندا بإخبار الرسول ، المستند بإخبار جبرئيل ، المستند بإثبات اللّه تعالى في اللوح ، وإذ كانوا عليهم السلام مجوّزين للبداء فيما أخبروا به إلى حين نزول التخيير ، فلم يكن المخيّر فيه متعيّنا في نظرهم حتّى ينافي التخيير.
وأمّا التعيّن في علم اللّه تعالى فهو غير مُناف له ؛ لأنّ الغرض منه بروز ما كمن في ذواتهم المقدّسة من أمر الاختيار ليظهر يوم تُبلى السرائر وجه الاصطفاء وعلّة الاجتباء ، ثمّ إنّك إذا أحطت بما تلونا لك ، علمت أنّ الأصوب في تقرير السؤال في هذا الحديث أن يقال : إنّ هذه الاُمور تدلّ على أنّ الإمام عليه السلام كان عالما بأنّ القضيّة قد تعيّنت، ولابدّ منه ولا محيص عنه ، والقول بهذا ممّا لا يجوز ولا يحلّ ولا يحسن ؛ لأنّه يفضي إلى القول بأنّه عليه السلام لم يكن قادرا على عدم المشي إلى المسجد ؛ إذ كان المشي متعيّنا من جهة اللّه ، وكذا ترتّب الواقعة على ذلك المشي ، فلم يكن مشيه إلى المسجد ولا صلاته