591
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

مناظريهم الموعودين بالبرّ والصلة مبكمين بعد يسير من المناظرة ، مسلّمين لبراهينهم عليهم السلام ، معترفين ببطلان دينهم عاجزين ـ إذا أوردوا عليهم السلام الاعتراضات ـ عن الجواب ، مسترشدين منهم عليهم السلام منهج الصدق والصواب ، كما هو مشهور من قصّة عمران الصابي وسليمان المروزي ويحيى بن أكثم وأضرابهم ، وأيّ سبيل كان لهؤلاء الظلمة أقرب إلى المراد من أن يقولوا لهم عليهم السلام : إنّ علومكم التي تستمحون لأجلها، وتدّعون وراثتها عن النبيّ صلى الله عليه و آله مأخوذة من فلان الفقيه ، أو فلان المتكلّم ؛ لأنّ أباكم الذي هو أقدمكم فيها كان تلميذا له لو كان الواقع ذلك ، ولمعري إنّهم ما أعرضوا عن سلوك هذا السبيل القريب إلاّ لعلمهم بتوجّه سهام التكذيب من كلّ بليد و لبيب .
وإذا تقرّر أنّ علم الباقر عليه السلام لم يكن من جهة التلمّذ ، بل كان من جهة الوراثة ، تبيّن كمال علم أبيه عليّ بن الحسين عليهماالسلام ، وبنحو التقريب المذكور علم أنّه ورث عن أبيه عن عمّه عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولم يخرج عن محمّد بن الحنفيّة ولا عن غيره من بني الحسن ـ رضي اللّه عنهم ـ ما يظنّ به وراثة العلم ، بل كان الصالح منهم مقلّد الإمامة مستندا إليه في أحكامه ، والطالح منهم موافقا لعلماء العامّة في العمل بالرأي والقياس وسائر وجوه الاستنباطات الظنّيّة والاستحسانات العقليّة ، كما هو مشهور بين فرق الزيديّة حتّى أنّهم لمّا رأوا أبا حنيفة أعلم من أئمّتهم وأعرف بفنّ القياس منهم بنوا بناء العمل بفقهه ، واعترفوا بأنّ أئمّتهم لم يكونوا أصحاب النصّ كأئمّتنا عليهم السلام .
فثبت أنّ عليّ بن الحسين عليه السلام من بين هؤلاء هو الوارث للعلوم النبويّة ، فكان هو المستحقّ للإمامة والرئاسة على الاُمّة ؛ لما عرفت أنّ مناط الإمامة والخلافة هو العلم ، و إنّى واللّه شاهد عليّ فرضت نفسي قد استبصرت بحقّيّة الإسلام ، وأنا نشأت بين فرقة من فرق الكفر ، فخرجت إلى بلاد المسلمين فوجدت المسلمين مختلفين، ففحصت عن أحوالهم واُصولهم في الاعتقادات والأعمال ، ثمّ حكّمت العقل في اختيار مذهب من تلك المذاهب لأحتجّ بذلك يوم ألقى اللّه عزّوجلّ ، فما حكم عقلي بعد الاطّلاع بحقيقة المذاهب إلّا بحقّيّة المذهب الفرقة الناجية الاثني عشريّة ، وذلك لأنّي وجدت


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
590

إنكاره ـ خلفه وخليفته محمّد الباقر عليه السلام الذي اتّفق الأولياء والأعداء على عِظَم قدره وجلالته وتبحّره في العلوم الدينيّة والمعارف اليقينيّة ، وكان علماء جميع الفرق يختلفون إليه ، ويعرضون مشكلاتهم عليه ، ويستفيدون منه أجوبة شافية ، كما هو مسطور في كتب السير ، وقد صرّح أرباب اللغة بأنّ تلقيبه عليه السلام بالباقر لأجل اتّساعه في العلم :
قال الجوهري: «التبقّر : التوسّع في العلم والمال ، وكان يقال لمحمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب : الباقر ؛ لتبقّره في العلم» ۱ . انتهى .
وقال الزمخشري في الأساس : «تبقّر في العلم والمال: توسّع، وهو باقر بقر عن العلوم». ۲
وقال صاحب القاموس : «الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين رضى الله عنه ، لتبحّره في العلوم» ۳ .
وهذا الوجه ورد في الأخبار أيضا؛ ففي كتاب معاني الأخبار للصدوق رضى الله عنهفي باب معاني أسماء الأئمّة عليهم السلام عن الصادق عليه السلام أنّه قال : «سُمّي الباقر عليه السلام باقرا ؛ لأنّه بقر العلم بقرا ، أي شقّه شقّا وأظهره إظهارا» ۴ .
وقد قلت في قصيدتي للرضا عليه السلام :

يا ابن الذي بقر العلوم وشقّهابعد اندراس من بني مروان
فأتى بما شهد البرايا أنّهما كان إلّا نفحة الرحمن
ولا شكّ أنّه عليه السلام لم يكن تلمّذ عند أحد ، وإلّا كان يجب أن يشتهر ذلك بين الناس ؛ لتوفّر الدواعي إلى نقل مثل هذا الأمر سيّما في زمن خلفاء بني العبّاس ، الذين ماتوا على تمنّي انكسار قدرتهم عليهم السلام وانحطاط مرتبتهم ، حتّى أنّهم كانوا كثيرا ما يجمعون أصحاب الملل وأرباب المقالات ، ويعدونهم في الخلوات بضروب العطايا والصِّلات على أن يظهروا عليهم عليهم السلام في المناظرة ولو بالمغالطة والمكابرة ، ويحطّونهم في المجالس عن جاههم ، ويطفؤوا و أنوار اللّه بأفواههم ، فلم يتهيّأ لهم ذلك ، بل كان ينقلب عليهم المراد على نحو قضيّة فرعون والسحرة . وذلك لأنّهم كانوا يرون

1.الصحاح، ج ۲، ص ۵۹۴.

2.أساس البلاغة ، ص ۴۲ (بقر) .

3.القاموس المحيط ، ج ۱ ، ص ۳۷۶ (بقر) .

4.معاني الأخبار، ص ۶۴ ، ذيل ح ۱۷.

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 103621
صفحه از 637
پرینت  ارسال به