99
الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1

وقوله : «وكلاهما اختلف في حديثكم». فيه إشعارٌ بأنّه ينبغي أن يُختار للحكم مَن عُلم من حاله ـ إمّا من جهة الإخبار أو الاشتهار ـ أنّه لا يفتي إلّا بمنطوقات الأحاديث ومدلولاتها الصريحة ولوازمها البيِّنة ، كابني بابويه وغيرهما من القدماء ، لا من كان مشتهرا بالإفتاء من جهة الظنون الحاصلة من الاعتبارات العقليّة ، والأمارات باللوازم الغير البيّنة ، والأفراد والجزئيّات الغير البيّنة الاندراج ، كما هو حال جمع من المتأخّرين ؛ فإنّ من تتبّع شروح الفقه والكتب الاستدلاليّة علم أنّ أكثر الاختلافات نشأ من جهة الاعتقاد بجواز الاعتماد على مطلق الظنّ ، اللّهمَّ إلّا الحاصل بالقياس ؛ لصراحة النهي عنه ، واختلافُهم من جهة اختلاف الأخبار والترجيحات المأثورة قليل .
ثمّ إنّ اختلافهما في الحديث بأن يدّعي أحدهما وجود خبر عنده صحيحٍ مقتضاه بحسب نظره كذا وكذا ، ويدّعيَ الآخَر مقابله، ولم يذكرا الحديثين ، أو ذكرا مجرّدا عن الإسناد وبيان وجه الاستناد لعدم الفائدة للمستفتين ؛ إذ ليسا من أهل النظر على ما هو المفروض ، فذكر الأعدل والأوثق ليترجّح عند المتحاكمين ادّعاء الموصوف بالأعدليّة والأوثقيّة لوجود الخبر الموثوق به على ادّعاء الآخر له ، وذكر الأفقه ليترجّح نظر الموصوف بالأفقهيّة على نظر الآخر ، وذكر الأورع ليترجّح نظر الموصوف بالأورعيّة من جهة عدم المساهلة في تدقيق النظر وعدم ميله واتّباع هواه على الآخر .
وفي قوله عليه السلام : «الحكم ما حكم به» إلى آخره ، دلالة على ما قلناه .
وقوله : «ليس بمشهور عند أصحابك» بعد قوله : «المجمع عليه» لبيان أن ليس المراد بالإجماع مصطلحَ الاُصوليّين ، بل ما اشتهر اعتباره والعمل به بين الفرقة المحقّة الذين لم يخلطوا طريقتهم بطريقة المخالفين ، كالكليني، وابني بابويه، ومن تقدّمهم من الأخباريّين ذوي البصيرة .
والمجمع عليه بهذا المعنى لا ريب في حقّيّته ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع باعتبار دخول المعصوم ، ولا ريب أنّ ما كان العمل به مشتهرا بين الأصحاب في زمانهم عليهم السلام كان مأخوذا منهم ، ومعلوما أنّهم عليه ، وليس الاشتهار من جهة الرأي والاجتهاد الذي بين


الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
98

رجلان» إلى قوله : «رجلٌ قَمَشَ جهلاً في جهّال الناس ۱ عانٍ ـ أو غانٍ ۲ ـ في أغباش الفتنة ، عَمٍ بما في عَقد الهُدْنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالما وليس به ، بَكَّرَ فاستكثر من جمعٍ ، ما قَلَّ منه خيرٌ ممّا كثر» الحديث ۳ .
هذا على الحاكم والمُفتي .
وأمّا الذي على السائل والمُستفتي ، فتحصيل من كان موصوفا بهذه الصفات باعتقاده الحاصل بعد فحص وتفتيش بقدر الوسع ، ثمّ العمل بقوله ما دام يظنّ أنّ قوله وفعله للّه تعالى ؛ وهذا هو العدالة المعتبرة في قبول العامّي من عالِمه ؛ إذ لا سبيل إلى تحقيق ما هو بين أهل النظر مع اختلاف الآراء في شروطها .
ثمّ على الحاكم أن يكون قد حصل له مَلَكة العدالة التي استقرّ عليها رأيه، ولا يضرّ مقلّده لو كان مدلّسا مرائيا بالعمل بعد أن أتى المقلّد بما عليه ؛ فربّ واعظٍ يدخل النار ، ومتّعظٍ بموعظته يدخل الجنّة (شعر) :

كما سوّد القصّار في الشمس وجههوبالغ في تبييض أثواب غيره۴
وقد ورد في الحديث أنّ هذا العالم أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة . ۵

1.في المصدر : «جهّال الاُمّة» .

2.في المصدر : «عادٍ» . وفي الكافي : «عان» . و «عان» اسم فاعل بمعنى الأسير ؛ يقال : عنا فيهم ، أي أقام فيهم على إسارة واحتُبس . أو بمعنى التَعِب ؛ يقال : عَنِي ، أي تعب . أو بمعنى المتّهم والمشتغل ؛ يقال : عنا به ، أي اهتمّ به واشتغل . ونقل المجلسي عن بعض النسخ : «غان» بمعنى عاش ومقيم ؛ من غني بمعنى عاش ، أو غني بالمكان ، أي أقام به . واختاره الداماد والفيض . راجع : التعليقة للداماد ، ص ۱۲۶ ؛ شرح صدر المتألّهين ، ص ۱۹۱ ؛ شرح المازندراني ، ج ۲ ، ص ۲۹۶ ؛ الوافي ، ج ۱ ، ص ۲۴۸ ؛ مرآة العقول ، ج ۱ ، ص ۱۸۸ ؛ الصحاح ، ج ۶ ، ص ۲۴۴۰ و ۲۴۴۹ (عنو ، غني) .

3.نهج البلاغة ، ص ۵۹ ، الخطبة ۱۷ . وهو في الكافي ، ج ۱ ، ص ۵۴ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح ۶ .

4.فيض القدير ، ج ۲ ، ص ۵۳۷ . ونقله العلاّمة الأميني رحمه اللّه في الغدير ، ج ۵ ، ص ۴۳۲ عن الصفدي في تمام المتون ، ص ۲۲۶ ، وعجزه هكذا : «حريصا على تبييض ثوب لغيره» . ونقل أيضا في أعيان الشيعة ، ج ۱۰ ، ص ۳۰۰ عن جمال الدين أبوالحسين يحيى بن عبدالعظيم الجزار المصري (ت ۶۷۲) وعجزه فيه هكذا : «حريصا على تبييض أثواب غيره» .

5.الكافي ، ج ۲ ، ص ۱۷۵ ، باب زيارة الإخوان ، ح ۲ ؛ و ص ۲۹۹ ، باب من وصف عدلاً وعمل بغيره ، ح ۱ ؛ الفقيه ، ج ۱ ، ص ۴۸ ، ح ۹۶؛ وغيرها .

  • نام منبع :
    الذّريعة الي حافظ الشّريعة ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 135677
صفحه از 637
پرینت  ارسال به