وقوله : «وكلاهما اختلف في حديثكم». فيه إشعارٌ بأنّه ينبغي أن يُختار للحكم مَن عُلم من حاله ـ إمّا من جهة الإخبار أو الاشتهار ـ أنّه لا يفتي إلّا بمنطوقات الأحاديث ومدلولاتها الصريحة ولوازمها البيِّنة ، كابني بابويه وغيرهما من القدماء ، لا من كان مشتهرا بالإفتاء من جهة الظنون الحاصلة من الاعتبارات العقليّة ، والأمارات باللوازم الغير البيّنة ، والأفراد والجزئيّات الغير البيّنة الاندراج ، كما هو حال جمع من المتأخّرين ؛ فإنّ من تتبّع شروح الفقه والكتب الاستدلاليّة علم أنّ أكثر الاختلافات نشأ من جهة الاعتقاد بجواز الاعتماد على مطلق الظنّ ، اللّهمَّ إلّا الحاصل بالقياس ؛ لصراحة النهي عنه ، واختلافُهم من جهة اختلاف الأخبار والترجيحات المأثورة قليل .
ثمّ إنّ اختلافهما في الحديث بأن يدّعي أحدهما وجود خبر عنده صحيحٍ مقتضاه بحسب نظره كذا وكذا ، ويدّعيَ الآخَر مقابله، ولم يذكرا الحديثين ، أو ذكرا مجرّدا عن الإسناد وبيان وجه الاستناد لعدم الفائدة للمستفتين ؛ إذ ليسا من أهل النظر على ما هو المفروض ، فذكر الأعدل والأوثق ليترجّح عند المتحاكمين ادّعاء الموصوف بالأعدليّة والأوثقيّة لوجود الخبر الموثوق به على ادّعاء الآخر له ، وذكر الأفقه ليترجّح نظر الموصوف بالأفقهيّة على نظر الآخر ، وذكر الأورع ليترجّح نظر الموصوف بالأورعيّة من جهة عدم المساهلة في تدقيق النظر وعدم ميله واتّباع هواه على الآخر .
وفي قوله عليه السلام : «الحكم ما حكم به» إلى آخره ، دلالة على ما قلناه .
وقوله : «ليس بمشهور عند أصحابك» بعد قوله : «المجمع عليه» لبيان أن ليس المراد بالإجماع مصطلحَ الاُصوليّين ، بل ما اشتهر اعتباره والعمل به بين الفرقة المحقّة الذين لم يخلطوا طريقتهم بطريقة المخالفين ، كالكليني، وابني بابويه، ومن تقدّمهم من الأخباريّين ذوي البصيرة .
والمجمع عليه بهذا المعنى لا ريب في حقّيّته ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع باعتبار دخول المعصوم ، ولا ريب أنّ ما كان العمل به مشتهرا بين الأصحاب في زمانهم عليهم السلام كان مأخوذا منهم ، ومعلوما أنّهم عليه ، وليس الاشتهار من جهة الرأي والاجتهاد الذي بين