دراسة حول الأبعاد الفقهية في تراث الشيخ الكليني - صفحه 214

وقفة قصيرة مع كتاب «الكافي»

لا شك أنّ كتاب الكافي قد ملأ فراغا مرجعيا كبيرا ؛ إذ لم يكن إلى عصر مؤلّفه جامع للأُصول والفروع يرجع إليه في الفقه والحديث والكلام وغيرها من العلوم ، وإنّما الذي كان ـ في الغالب ـ هو عبارة عن مجموعة من الأُصول والكتب المتفرّقة والمبثوثة بأيدي الرواة وحفظة الحديث من غير تنقية أو تبويب أو استيعاب ، فقام الكليني ـ وقد كان خبيرا بالأخبار بصيرا بها ناقدا لها ـ بعملية جمع وضبط وفرز وانتقاء للأحاديث من تلك الأُصول ، ثمّ إفراغها ضمن تقسيم صناعي جامع ومبتكر لم يتّفق مثله لكتاب مثله .
وتظهر لنا جسامة الجهد الذي بذله الكليني في هذا السبيل إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار المدّة الزمنية التي استغرقها تأليف هذا الكتاب ، حيث دامت عشرين عاما ، هذا مع ما كان عليه الكليني من خبرة وكفاءة عالية تؤهّله للقيام به في أقصر فرصة ممكنة ، سيما مع رواج الحديث وكتبه وأُصوله آنذاك ؛ إذ كان الحديث يشكّل الطابع العامّ واللغة المدرسية لأغلب العلوم ، فليس أمام الباحث ثمّة صعوبة في تحصيل تلك المادّة ، خصوصا مع ملاحظة بيئة الكليني ببغداد أو الري ، وما كانت تمثّله من مركزية وريادة على الصعيد العلمي ، ممّا يعني توفّر جميع العوامل والدواعي لإنجاز أيّ عمل علمي من هذا القبيل .
إنّ ملاحظة جميع هذه العوامل والأوضاع منضمّة بعضها إلى بعض ، تقودنا إلى القول بأنّ ما قام به الشيخ الكليني لم يكن عملاً فنّيا أو تجميعيا صرفا ـ بالرغم من كونه مهمّة أعظم بها من مهمّة ، سيما وهي الأُولى من نوعها ـ بل ينمّ ذلك ويكشف عن خبرة وجهد علمي كبيرين كانا الأساس في جمع أحاديث هذه الموسوعة وتبويبها وتنسيقها وانتقائها من الأُصول المعتمدة بإخراج الصحيح منها ، كما أوضحه في مقدّمة الكتاب . وبعبارة ثانية : إنّ هذا العمل يعتبر عملاً اجتهاديا وخبرويا في فهم الأخبار وفقهها .
ومن هنا فقد احتلّ هذا المصدر المهمّ الصدارة والتقدّم منذ اليوم الأوّل لتأليفه ، فقد ارتشف من معينه علماء هذه الأُمّة من فقهائها وأئمّة الحديث فيها من الطبقة الأُولى المعاصرة لزمن تأليفه ، مذعنين بقدرة مؤلّفه وبراعته في هذا الفنّ ، مقدّرين له جهده في هذا الكتاب .
قال الرجالي القديم الشيخ النجاشي :
كنت أتردّد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي ـ وهو مسجد نفطويه النحوي ـ أقرأ القرآن على صاحب المسجد، وجماعة من أصحابنا يقرؤون كتاب الكافي على أبي الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب ، حدّثكم محمّد بن يعقوب الكليني . ورأيت أبا الحسن العقرائي يرويه عنه .
وروينا كتبه كلّها عن جماعة شيوخنا : محمّد بن محمّد ، والحسين بن عبد اللّه ، وأحمد بن علي بن نوح ، عن أبي القاسم جعفر بن قُولَوَيه ، عنه ۱ .
وهي شهادة تكشف ـ بحقّ ـ عن المرتبة الرفيعة لهذا المصنّف الفذّ ، واهتمام الوسط العلمي به آنذاك ، وروايته له إجازة وسماعا .
وقد روى هذا الأثر الخالد رجالات الفقه والحديث الأوائل ممّن كان له الصدارة في الفتيا والحديث ، كالشيخ المفيد ، والسيّد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، والصدوق ، وابن قولويه ، والنجاشي ، والتلّعُكبَري ، والزُّراري ، وابن أبي رافع الصيمري ، وأبي المفضّل الشيباني ، وابن عبدون ، وغيرهم .
وقد أطبقت كلمات الأعلام على تفضيله وترجيحه :
قال الشيخ المفيد :
هو من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة ۲ .
وقال الشهيد الثاني بأنّه :
لم يعمل الإمامية مثله ۳ .
وقال المجلسي الأوّل بأنّه :
أضبط الأُصول ، وأحسن مؤلّفات الفرقة الناجية ، وأعظمها ۴ .
وقد تفرّد هذا المصنَّف العظيم بمزايا قلّ نظيرها في غيره :
منها : قرب عهده بزمن النصّ ؛ حيث كان تأليفه في عصر الغيبة الصغرى وعهد السفراء .
ومنها : إنّه مجموع من الأُصول المعتمدة والكتب المعوّل عليها عند الطائفة .
ومنها : الالتزام بنقل نصّ الحديث لا النقل بالمعنى .
ومنها : الالتزام بإيراد جميع سلسلة السند من المؤلّف إلى المعصوم عليه السلام متّصلاً ، وقد يُحذف صدر السند ، ولعلّه لنقله عن أصل المروي عنه من غير واسطة أو لحوالته على ما ذكره قريبا ، وهذا في حكم المذكور ۵ .
ومنها : جامعيته لفصول المعرفة كافّة ، من العقائد والأحكام والأخلاق ، بعكس أقرانه الثلاثة التي اختصّت بالأحكام والفروع فحسب .
ومنها : حسن التبويب وحسن التعبير عن عناوين الأبواب وانطباقها على الروايات المنضوية تحتها .
ومن هنا فقد حظي هذا المصنّف بعناية الأعلام منذ القدم ، فأولوه اهتماما فائقا ، شرحا وتعليقا واختصارا وترجمةً وتحقيقا .
وقد عدّ بعض الباحثين من جملة شروحه الكثيرة اثني عشر شرحا ، ومن التعليقات عليه إحدى وعشرين تعليقة ۶ .

1.رجال النجاشي : ص ۳۷۷ .

2.تصحيح الاعتقاد : ص ۲۷ .

3.بحار الأنوار : ج ۲۵ ص ۶۷ .

4.مرآة العقول : ج ۱ ص ۳ .

5.انظر : الوافي : ج ۱ ص ۱۳ .

6.انظر : مقدّمة الكافي للدكتور حسين علي محفوظ : ص ۳۰ و ۳۲ .

صفحه از 257