دراسة حول الأبعاد الفقهية في تراث الشيخ الكليني - صفحه 226

الملامح العامّة للبعد الأُصولي عند الكليني

يظهر للمتتبّع لتأريخ علم الأُصول أنّ التكوين الأوّل لهذا العلم قد بدأ ـ بشكلٍ رسمي ومقرّر ـ في القرنين الرابع والخامس . وهذا لا يلغي ـ بالطبع ـ الجهود العلمية الأُولى التي سبقت هذه الفترة والتي ظهرت في بعض مصنّفات أصحاب الأئمّة في هذا المجال ؛ إذ إنّا نتكلّم عن الوجه الرسمي لهذا العلم كصناعة مقرّرة تمتلك مقوّماتها ومنهجها الخاصّ بها .
وقد عاصر فقيهنا الكليني بدايات تلك المرحلة التي أرسى قواعدها بعض معاصريه من فقهائنا العظام الذين افتقدنا آثارهم وعطاءهم العلمي ، الأمر الذي أفقدنا امتلاك تصوّر كامل وجامع في هذا المجال .
والكليني بالرغم ممّا اشتهر وعُرف عنه من اهتمامه بأمر الحديث ، فإنّ المتتبّع في مجموع آرائه وبحوثه الفقهية التي ضمّنها كتابه الروائي، يجد أنّ ثمّة مرتكزات ومنطلقات أُصولية للبحث الفقهي عند الكليني ، نشير إليها لعلّها تكون ومضة في الكشف عن خلفيات البعد الفقهي عند هذا الفقيه :

1 ـ الأدلّة

يدور محور البحث الفقهي لدى الكليني على الأدلّة التالية : الكتاب ، السنّة ، الإجماع .
أمّا الدليل الأوّل فقد استند إليه في مجموعة من آرائه وبحوثه الاستدلالية ، وهي كثيرة ، ولكن نشير إلى موردين منها؛ لتميّزهما بطرافة الاستدلال ودقّة النظر لدى الكليني :
1 ـ قال في ميراث البنتين :
وقد تكلّم الناس في أمر البنتين من أين جعل لهما الثلثان، واللّه ـ جلّ وعزّ ـ إنّما جعل الثلثين لما فوق اثنتين ؟
فقال قوم: بإجماع ، وقال قوم : قياساً ؛ كما إن كان لواحدة النصف، كان ذلك دليلاً على أنّ لِما فوق الواحدة الثلثين . وقال قوم: بالتقليد والرواية . ولم يُصب واحد منهم الوجه في ذلك .
فقلنا : إنّ اللّه جعل حظّ الأُنثيين الثلثين ، بقوله : «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» ، وذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتاً وابناً ، فللذكر مثل حظّ الأُنثيين وهو الثلثان ، فحظّ الأُنثيين الثلثان ، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأُنثيين بالثلثين ، وهذا بيان قد جهله كلّهم ، والحمد للّه كثيراً ۱ .
نلاحظ في هذا النصّ أنّه بعد تقرير الأدلّة والأقوال الأُخرى ، يرجع بالمسألة إلى الآية الكريمة التي هي الأصل في الحكم ، حيث اشتملت على حكمين : أحدهما ـ وهو الأساس فيها ـ فريضة الذكر إذا اجتمع مع أُنثى ، والآخر ـ وهو الذي غفل عنه القوم ـ هو فريضة الأُنثيين ، وهو الثلثان ، فتكون الآية قد ذكرت حكم الأُنثيين في طول بيان حكم الذكر .
فأغنى ذلك عن الاستدلال بالقياس أو الإجماع أو الرواية، والمراد بها رواية جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في ابنتي سعد بن ربيعة الذي قُتل في يوم أُحد ، فأعطاهما الثلثين بعد أن تريّث، حتّى نزل قوله تعالى : «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» .
فنلاحظ في هذه اللفتة الدقيقة من الشيخ الكليني تركيزاً على القرآن واستظهاراً لنكتة ظريفة في الآية ، ولعلّه أوّل من تنبّه لذلك ، كما يشعر به قوله : «وهذا بيان قد جهله كلّهم، والحمد للّه كثيراً» .
كما أنّي لم أعثر على مصرّح به كالشيخ في الخلاف والمبسوط والصدوق في الفقيه .
نعم، أشار المتأخّرون إلى أصل النكتة مع تطويرٍ لها . قال في المسالك في المسألة : «والمحقّقون على أنّ ذلك مستفاد من قوله تعالى : «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» ، فإنّه يدلّ على أنّ حكم الأُنثيين حكم الذكر ، وذلك لا يكون في حال الاجتماع ؛ لأنّ غاية ما يكون لهما معه النصف إذا لم يكن معه ذكر غيره ، فيكون ذلك في حالة الانفراد» ۲ .
2 ـ قال في حكم الفيء والأنفال :
إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل الدنيا كلّها بأسرها لخليفته ، حيث يقول للملائكة : «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ، فكانت الدنيا بأسرها لآدم ، وصارت بعده لأبرار ولده وخلفائه ، فما غلب عليه أعداؤهم ثمّ رجع إليهم بحربٍ أو غلبةٍ سُمّي فيئاً ، وهو أن يفيء إليهم بغلبةٍ وحربٍ ، وكان حكمه فيه ما قال اللّه تعالى : «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»۳ .
ففي هذه الممارسة الاجتهادية نجد تركيزاً على استحضار النصّ القرآني . وقد استفاد ـ كما يبدو ـ من الآية الاُولى نكتة ظريفة لإثبات ملكية الخليفة للأرض، وذلك من نفس لفظ «الخليفة» في الأرض ، فإنّ الأرض لمّا كانت في الأصل للّه تعالى، فإنّ مقتضى استخلافه فيها أن تكون له ، وإلّا فلا وجه للاستدلال بالآية بغير ذلك ، واللّه العالم .
والدليل الثاني يمثّل المحور الأساس في كتابه .
وأمّا الإجماع فقد ارتكن إليه في مواضع من كتاب الإرث ، مرتئيا حجّيته بالرغم من عدم الوقوف على منشأ الحجّية والاعتبار لديه . وإليك بعض النماذج والتطبيقات في هذا المجال :
أ . قال في كتاب الإرث ـ في بيان الفرائض ـ :
إنّ اللّه ـ جلّ ذكره ـ جعل المال كلّه للولد في كتابه ، ثمّ أدخل عليهم بعد الأبوين والزوجين ، فلا يرث مع الولد غير هؤلاء الأربعة ؛ وذلك أنّه عزّوجلّ قال : «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـدِكُمْ»۴ ، فأجمعت الأُمّة على أنّ اللّه أراد بهذا القول الميراث ، فصار المال كلّه بهذا القول للولد ۵ .
فإنّ المتأمّل في هذا النّص يلاحظ كيف أنّه حكّم الإجماع في فهم النّص ، وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام، حيث تلفتنا إلى دور الإجماع في تبيين النصّ وتفسيره .
ب . وقال أيضا في وجوه الفرائض :
إنّ اللّه جعل الفرائض على أربعة أصناف ، وجعل مخارجها من ستّة أسهم ، فبدأ بالولد والوالدين الذين هم الأقربون وبأنفسهم يتقرّبون لا بغيرهم ، ولا يسقطون من الميراث أبدا ، ولا يرث معهم أحد غيرهم إلّا الزوج والزوجة ؛ فإن حضر كلّهم قُسّم المال بينهم على ما سمّى اللّه عزّوجلّ ، وإن حضر بعضهم فكذلك ، وإن لم يحضر منهم إلّا واحد فالمال كلّه له . ولا يرث معه أحد غيره إذا كان غيره لا يتقرّب بنفسه وإنّما يتقرّب بغيره ، إلّا ما خصّ اللّه به من طريق الإجماع أنّ ولد الولد يقومون مقام الولد ، وكذلك ولد الإخوة إذا لم يكن ولد الصلب ولا إخوة . وهذا من أمر الولد مجمع عليه ، ولا أعلم بين الأُمّة في ذلك اختلافا ۶ .
وهنا نلاحظ أيضا دور الإجماع في استثناء إرث ولد الولد من الحكم المذكور .
ج . وقال أيضا بعد أن أورد ما يدلّ على إرث الجدّ والجدّة السدس طعمة المخالف للمجمع عليه من أنّهما لا يرثان ذلك مع وجود الأبوين :
هذا ـ أي ما يدلّ على إطعامهم السدس ـ قد روي ، وهي أخبار صحيحة ، إلّا أنّ إجماع العصابة أنّ منزلة الجدّ منزلة الأخ من الأب يرث ميراث الأخ .
ثمّ قال في مقام توجيه هذه الأخبار :
وإذا كانت منزلة الجدّ منزلة الأخ من الأب يرث ما يرث الأخ، يجوز أن تكون هذه أخبار خاصّة .
ثمّ قال :
إلّا أنّه أخبرني بعض أصحابنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أطعم الجدّ السدس مع الأب، ولم يعطه مع الولد ، وليس هذا ممّا يوافق إجماع العصابة أنّ منزلة الأخ والجدّ بمنزلة واحدة ۷ .
وهذا النصّ يثير اهتمام الباحث كثيراً ويستوقفه طويلاً ؛ إذ كيف لفقيهٍ محدّثٍ يعرض عن النصوص الصحيحة الصريحة ويحملها على أنّها أخبار خاصّة ليراعي إجماع العصابة ويحذر مخالفتهم ! إلّا أن يريد بما أجمعوا عليه من الأخبار ، فيكون حينئذٍ قد جعل الإجماع عاضدا ومرجّحا لأحد شقّي التعارض بين هذه الأخبار ، وسيأتي الكلام عن ذلك عند التعرّض لبحث المرجّحات في حالات التعارض .

1.فروع الكافي : ج ۷ ص ۷۲ .

2.مسالك الأفهام : ج ۳ ص ۸۶ .

3.فروع الكافي : ج ۱ ص ۶۰۴ .

4.النساء : ۱۱ .

5.فروع الكافي : ج ۷ ص ۷۴ .

6.المصدر السابق : ص ۷۳ .

7.المصدر السابق : ص ۱۱۶ .

صفحه از 257