دراسة حول الأبعاد الفقهية في تراث الشيخ الكليني - صفحه 251

2 ـ باب بيان الفرائض في الكتاب

إنّ اللّه ـ جلّ ذكره ـ جعل المال كلّه للولد في كتابه ، ثمّ أدخل عليهم بعدُ الأبوين والزوجين ، فلا يرث مع الولد غير هؤلاء الأربعة ؛ وذلك أنّه عزّوجلّ قال : «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـدِكُمْ»۱ ، فأجمعت الأُمّة على أنّ اللّه أراد بهذا القول الميراث ، فصار المال كلّه بهذا القول للولد . ثمّ فصل الأُنثى من الذكر ، فقال : «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ»۲ ، ولو لم يقل عزّوجلّ : «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» ، لكان إجماعهم على ما عنى اللّه به من القول يوجب المال كلّه للولد ؛ الذكر والأُنثى فيه سواء ، فلمّا أن قال : «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» ، كان هذا تفصيل المال ، وتمييز الذكر من الأُنثى في القسمة ، وتفضيل الذكر على الأُنثى ، فصار المال كلّه مقسوما بين الولد «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» .
ثمّ قال : «فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ»۳ ، فلولا أنّه عزّوجلّ أراد بهذا القول ما يتّصل بهذا ، كان قد قسّم بعض المال وترك بعضا مهملاً ، ولكنّه ـ جلّ وعزّ ـ أراد بهذا أن يوصل الكلام إلى منتهى قسمة الميراث كلّه ، فقال : «وَإِن كَانَتْ وَ حِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَ حِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ»۴ ، فصار المال كلّه مقسوما بين البنات وبين الأبوين ، فكان ما يفضل من المال مع الابنة الواحدة ردّا عليهم على قدر سهامهم التي قسمها اللّه ـ جلّ وعزّ ـ وكان حكمهم فيما بقي من المال كحكم ما قسّمه اللّه عزّوجلّ على نحو ما قسمه ؛ لأنّهم كلّهم أُولو الأرحام ، وهم أقرب الأقربين ، وصارت القسمة للبنات النصف والثلثان مع الأبوين فقط ، وإذا لم يكن أبوان فالمال كلّه للولد بغير سهام، إلّا ما فرض اللّه عزّوجلّ للأزواج على ما بيّناه في أوّل الكلام، وقلنا : إنّ اللّه عزّوجلّ إنّما جعل المال كلّه للولد على ظاهر الكتاب ، ثمّ أدخل عليهم الأبوين والزوجين .
وقد تكلّم الناس في أمر الابنتين : من أين جُعل لهما الثلثان واللّه ـ جلّ وعزّ ـ إنّما جعل الثلثين لما فوق اثنتين ؟ فقال قوم : بإجماع ، وقال قوم : قياسا ؛ كما إن كان للواحدة النصف كان ذلك دليلاً على أنّ لما فوق الواحدة الثلثين ، وقال قوم بالتقليد والرواية .
ولم يُصِب واحد منهم الوجه في ذلك ، فقلنا : إنّ اللّه عزّوجلّ جعل حظّ الأُنثيين الثلثين بقوله : «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ» ؛ وذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل حظّ الأُنثيين وهو الثلثان ، فحظّ الأُنثيين الثلثان ، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأُنثيين بالثلثين ، وهذا بيان قد جهله كلّهم ، والحمد للّه كثيرا .
ثمّ جعل الميراث كلّه للأبوين إذا لم يكن له ولد، فقال : «فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» ، ولم يجعل للأب تسمية، إنّما له ما بقي . ثمّ حجب الأُمّ عن الثلث بالإخوة ، فقال : «فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ»۵ ، فلم يورث اللّه جلّ وعزّ ـ مع الأبوين إذا لم يكن له ولد إلّا الزوج والمرأة ، وكلّ فريضة لم يسمِّ للأب فيها سهما فإنّما له ما بقي ، وكلّ فريضة سُمّى للأب فيها سهما ، كان ما فضل من المال مقسوما على قدر السهام في مثل ابنة وأبوين على ما بيّناه أوّلاً .
ثمّ ذكر فريضة الأزواج فأدخلهم على الولد وعلى الأبوين وعلى جميع أهل الفرائض على قدر ما سمّى لهم ، وليس في فريضتهم اختلاف ولا تنازع ، فاختصرنا الكلام في ذلك .
ثمّ ذكر فريضة الإخوة والأخوات من قبل الأُمّ ، فقال : «وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ» ، يعني لأُمّ ، «فَلِكُلِّ وَ حِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَ لِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ» ، وهذا فيه خلاف بين الأُمّة ، وكلّ هذا«مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ» ۶ . فالإخوة من الأُمّ لهم نصيبهم المسمّى لهم مع الإخوة والأخوات من الأب والأُمّ ، والإخوة والأخوات من الأُمّ لا يزادون على الثلث ولا ينقصون من السدس ، والذكر والأُنثى فيه سواء ، وهذا كلّه مجمع عليه ، إلّا أن لا يحضر أحد غيرهم ، فيكون ما بقي لأُولي الأرحام ويكونوا هم أقرب الأرحام ، وذو السهم أحقُّ ممّن لا سهم له ، فيصير المال كلّه لهم على هذه الجهة .
ثمّ ذكر الكلالة للأب ؛ وهم الإخوة والأخوات من الأب والأُمّ ، والإخوة والأخوات من الأب إذا لم يحضر إخوة وأخوات لأب وأُمّ ، فقال : «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ۷ ، والباقي يكون لأقرب الأرحام ، وهي أقرب أُولي الأرحام ، فيكون الباقي لها سهم أُولي الأرحام .
ثمّ قال : «وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ» ، يعني للأخ المال كلّه إذا لم يكن لها ولد، «فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ»۸ .
ولا يصيرون كلالة إلّا إذا لم يكن ولدٌ ولا والدٌ ، فحينئذٍ يصيرون كلالة . ولا يرث مع الكلالة أحدٌ من أُولي الأرحام ، إلّا الإخوة والأخوات من الأُمّ والزوج والزوجة .
فإن قال قائل : فإنّ اللّه ـ عزّوجلّ وتقدّس ـ سمّاهم كلالة إذا لم يكن ولد فقال : «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَــلَةِ إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» ، فقد جعلهم كلالة إذا لم يكن ولد ، فلم زعمت أنّهم لا يكونون كلالة مع الأُمّ ؟ !
قيل له : قد أجمعوا جميعا أنّهم لا يكونون كلالة مع الأب وإن لم يكن ولد ، والأُمّ في هذا بمنزلة الأب ؛ لأنّهما جميعا يتقرّبان بأنفسهما ، ويستويان في الميراث مع الولد ، ولا يسقطان أبدا من الميراث .
فإن قال قائل : فإن كان ما بقي يكون للأُخت الواحدة وللأُختين وما زاد على ذلك ، فما معنى التسمية لهنَّ النصف والثلثان ؛ فهذا كلّه صائر لهنّ وراجع إليهنّ ، وهذا يدلّ على أنّ ما بقي فهو لغيرهم وهم العصبة ؟
قيل له : ليست العصبة في كتاب اللّه ولا في سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وإنّما ذكر اللّه ذلك وسمّاه ؛ لأنّه قد يجامعهنّ الإخوة من الأُمّ ويجامعهنّ الزوج والزوجة ، فسمّى ذلك ليدلّ كيف كان القسمة ، وكيف يدخل النقصان عليهنّ ، وكيف ترجع الزيادة إليهنّ على قدر السهام والأنصباء إذا كنّ لا يحطن بالميراث أبدا على حال واحدة ؛ ليكون العمل في سهامهم كالعمل في سهام الولد على قدر ما يجامع الولد من الزوج والأبوين ، ولو لم يسمّ ذلك لم يهتد لهذا الذي بيّناه ، وباللّه التوفيق .
ثمّ ذكر أُولي الأرحام، فقال عزّوجلّ : «وَأُوْلُواْ الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَـبِ اللَّهِ»۹ ؛ ليعيّن أنّ البعض الأقرب أولى من البعض الأبعد ، وأنّهم أولى من الحلفاء والموالي ، وهذا بإجماع إن شاء اللّه ؛ لأنّ قولهم : « بالعصبة » يوجب إجماع ما قلناه .
ثمّ ذكر إبطال العصبة، فقال : «لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَ لِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَ لِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْكَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا»۱۰ ، ولم يقل فيما بقي هو للرجال دون النساء ، فما فرض اللّه ـ جلَّ ذكره ـ للرجال في موضع حرم فيه على النساء بل أوجب للنساء في كلّ ما قلَّ أو كثر .
وهذا ما ذكر اللّه عزّوجلّ في كتابه من الفرائض ، فكّل ما خالف هذا على ما بيّنّاه فهو ردّ على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه و آله وسلم ، وحكم بغير ما أنزل اللّه ؛ وهذا نظير ما حكى اللّه عزّوجلّ عن المشركين حيث يقول : «وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـذِهِ الْأَنْعَـمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَ جِنَا»۱۱ .
وفي كتاب أبي نعيم الطحّان رواه عن شريك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر ۱۲ ، عن زيد بن ثابت أنّه قال : «من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء» ۱۳ .

1.النساء : ۱۱ .

2.النساء : ص ۱۱ .

3.المصدر السابق .

4.المصدر السابق .

5.المصدر السابق .

6.المصدر السابق : ص ۱۲ .

7.النساء : ص ۱۷۶ .

8.المصدر السابق .

9.الأنفال : ۷۵ ؛ الأحزاب : ۶ .

10.النساء : ۶ .

11.الأنعام : ۱۳۹ .

12.كذا ، والظاهر « جبير » .

13.فروع الكافي : ج ۷ ص ۷۸ .

صفحه از 257