القصّة الاُولى : مفتاح الحلّ ، قرار العمل
بينما كان يستعرض صور ماضيه المليء بالمشقّة ويتذكّر الأيّام المرّة التي خلّفها وراءه ، كالأيّام التي لم يكن قادراً فيها على الحصول على القوت اليومي لزوجته وأطفاله المساكين ، بينما كان كذلك، وإذا بحديثٍ سمعه من قبل يطرق سمعه ثلاث مرّات ، ممّا بعث فيه العزم وغيّر مسيرة حياته ، وأنقذه مع عائلته من أسر الفقر والنكبة .
فبعد أن رأت زوجته أنّ الفقر المدقع قد بلغ أوجه ، أشارت عليه بأن يذهب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ويعلمه بحالته المادّية المتدهورة تلك ، ويطلب منه العون والمساعدة .
فمضى من ساعته إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ليخبره بما اقترحت عليه زوجته ، وقبل أن يتفوّه بحاجته ، سمع هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « من سألنا أعطيناه ، ومن استغنى أغناه اللّه »۱ ، فلم يقل شيئاً ، وعاد إلى بيته بخفيّ حنين . ومن شدّة وطأة الفقر اضطرّ إلى أن يذهب إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في اليوم التالي لطلب المساعدة ، وإذا بالحديث نفسه يطرق سمعه للمرّة الثانية : « من سألنا أعطيناه ، ومن استغنى أغناه اللّه » ، وعاد كما في المرّة الاُولى إلى بيته من دون أن يظهر حاجته ، إلّا أنّه وجد نفسه في قبضة الفقر لا مناص منها ، فنهض قاصداً النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم للمرّة الثالثة . وما أن سمع حديث الرسول صلى الله عليه و آله وسلمحتّى غمر الاطمئنان قلبه ؛ لأنّه أحسّ بأنّ مفتاح مشكلته بيده ، فخرج وهو يسير بخطوات واثقة مردّداً في نفسه : لن أطلب معونه العبيد أبداً ، سأعتمد على اللّه وأتوكّل عليه ، فهو حسبي ، وسأستعين بما وهبني عزّ وجلّ من قوّة، وما التوفيق إلّا من عند اللّه .
وبينما هو فى غمرة الأفكار استوقفه سؤال: ترى ما العمل الذي بمقدورى أن أعمله؟ وفجأة خطر له أن يذهب إلى الصحراء ويحتطب، فاستعار معولاً وشقّ طريقه نحو الصحراء. جمع مقداراً من الحطب، جاء به إلى المدينة، باعه، فذاق لذّة تعبه وحلاوة كدحه.
ولم يزل هذا ديدنه حتّى استطاع أن يشتري له ناقة وغلامين، وكلّ ما يحتاجه من لوازم لعمله، وإذا به يصبح ذا ثراء وغلمان. وذات يوم التقى النبىّ صلى الله عليه و آله وسلم وأخبره خبره وكيف أنّه جاءه لطلب المساعدة، فابتسم النبىّ صلى الله عليه و آله وسلم وقال: أتذكر أنّني قلت حينها : «من سألنا أعطيناه، ومن استغنى اغناه اللّه »؟
فأنت ـ أيّها القارئ النبيه ـ تلاحظ فى هذه القصّة ما يلى:
1 ـ تلاحظ الحاجة الملحّة الضاغطة التي ألجأته إلى الذهاب إلى رسول اللّه لطلب المساعدة والعون.
2 ـ وتلاحظ دور المرأة التحريضي لزوجها بالذهاب إلى النبيّ لطلب المساعدة والعون.
3 ـ كما تجد استجابته لطلب زوجته بالذهاب لإنقاذ الحالة المزرية.
4 ـ وتلاحظ أيضاً إسراعه بالذهاب إلى المسجد؛ لأنّه لم يجد بداً من ذلك، لظنّه أنّ طلب المساعدة من النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم هو المخرج الوحيد الذي لا مخرج سواه؛ لأزمته التي أحكمت حصارها عليه وعلى أفراد عائلته قاطبةً.
وحين وصوله إلى المسجد يفاجأ بسماعه لحديث رسول اللّه : «من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه » ، وهو حديث يحكي حالته المعاشة، ويوجد فيه مفتاح الحلّ في القسم الثاني منه «ومن استغنى أغناه اللّه ».
5 ـ ونجده حينما يسمع الحديث النبويّ المنقذ، يعود أدراجه إلى البيت، ولم يتفوّه بشيء.
6 ـ ولكنّنا كذلك نلاحظه في مشهدٍ آخر يعود ثانية إلى الرسول في اليوم الثاني تحت إلحاح الحاجة وإلحاح الزوجة ، إلّا أنّه كذلك يسمع ما سمعه في المرّة الاُولى .
7 ـ وهكذا نلاحظ الرجل الفقير يذهب ثالثةً، فلا يسمع شيئاً غير الحديث الذي سمعه في المرّة الاُولى والثانية. وهنا نجده ينتبه إلى وضعه المزري، ويرى أنّ الحلّ لمشكلته بيده، وينبع الحلّ من داخل نفسه، فالمستعان هو اللّه ، وأمّا العبيد فهم أدوات وآلات للوصول إلى الأهداف، فاستعار معولاً، وشقّ طريقه نحو الصحراء، وجمع مقداراً من الحطب، جاء به من الصحراء إلى المدينة، فباعه، فذاق لذّة كدحه وتعبه، ولم يزل هذا عمله، حتّى استطاع أن يشتري له ناقة وغلامين، وكلّ ما يحتاجه من لوازم لعمله، وإذا به يصبح ذا ثراء وغلمان! وهذا التغيير الكبير إنّما حصل بعد أن غيّر ما بنفسه واتّخذ قرار العمل ولم يعتمد على المساعدات.
8 ـ وأخيراً وبعد الوصول إلى الحالة الجديدة والنقلة النوعية في حياته، التقى رسول اللّه الناصح الأمين، فأخبره خبره، وكيف أنّه جاء يوماً لطلب المساعدة والعون منه، فابتسم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وقال: أتذكر أنّني قلت حينها: «من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه »؟
وهذا يذكّرنا بذلك البدوي القادم من البادية، والذي طلب النصيحة بإيجاز من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم؛ لأنّه لا يوجد عنده وقت للمثول بين يديه في كلّ الأوقات، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: «لا تغضب»، وحينما طلب المزيد على ذلك مرّتين، كرّر عليه رسول اللّه نصيحته المقتضبة «لا تغضب»! فوجد البدوي المستنصح في هذه الكلمة الواحدة كلّ خير لنفسه ولمجتمعه البدوي الذي تقوم علاقاته على الانفعال والغضب والتعامل مع الآخر لأدنى الأسباب، بالسلاح وسفك الدماء، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمبذكائه وفطنته المميّزين اختار لهذا البدوي نصيحة مناسبة لبيئته البدوية المنفعلة الغاضبة المهتزّة، وقد استفاد منها إيما استفادة، فهو ـ البدوي ـ عندما عاد إلى أهله ودياره وجد عشيرته وقد تأهّبت للقتال مع عشيرةٍ أُخرى قد حملت السلاح هي الأُخرى، وقد أراد في بداية الأمر أن يقف إلى جنب عشيرته مقاتلاً، إلّا أنّه تذكّر نصيحة رسول اللّه الموجزة والغنية «لا تغضب»، فألقى سلاحه، بعد أن امتشقه! وتحوّل إلى حمامة سلام بين الطرفين، فكان السلام وكان الوئام بفضل الالتزام بنصيحة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: «لا تغضب».
1.أ?ول الكافي : ج ۲ ص ۱۳۹ ، ونقل القصّة في بعض الأحيان ليس نقلاً حرفياً ، لكنّه لم يكن مخلّاً بمعناها ، كما فعل الشهيد آية اللّه الشيخ مرتضى المطهري .