الآخر في فكر الكليني، المعتزلة أُنموذجا - صفحه 11

الدراسات الدينية

تبدو إشكالية الآخر في الوعي الديني أكثر تعقيداً؛ لما لها من مستويات مختلفة في التناول والدراسة، وقد تناولت هذه الدراسات الآخر (المؤسّساتي الفقهي) في علاقته بغيره، إذ مايزت هذه الدراسات بين «ما هو قدسي متعالٍ، وما يحيل على ترجمتها الدنيوية التاريخية، فهي تختزن تصوّراً للكون والطبيعة والإنسان، وتقترح نمطاً من الاعتقاد يرمي بالمؤمن في مناخ ذهني ووجداني يدفع به إلى الانخراط في حركية دائمية للتماهي بين ذاته وموضوع إيمانه». ۱
فثنائية الصراع التي قدّمتها الديانة القديمة (الخير والشرّ) كانت البذرة الاُولى في تجسيد صورة الآخر (العدوّ)، إذ «يمارس الناس الصراع المقدّس في العالم المادّي، ويتشكّل التاريخ من خلال الصراع بين قوى الظلام وقوى النور، بين الخير والشرّ... وسيطاح ـ نتيجة لذلك ـ بقوى الظلام، وتتجدّد الأرض فتصبح في حالٍ من النظارة والطهارة؛ لأنّها لهما». ۲
ليست المعضلة الوعي بوجود آخر يشاركني الوجود فقط، بل الوعي بآخر «يشاركني الحقيقة، هذه الحقيقة التي طالما تيقّنت أنّ إشعاعها يخرج من هنا الممتلئ إلى هناك الخواء والفراغ، إلى الأماكن البعيدة الباردة الحالكة الظلام، وإذا في لحظة مشاركة وجدانية وحالة قصد وانشداد ادع هذا الآخر يتفتّح أمامي بنفسه». ۳
إنّ الحاجة إلى الآخر هي حاجة وجودية يتوقّف عليها وجود الذات، وبما أنّ الوجود كلّه عبارة عن وحدات بينهما علاقات تتوقّف عليها وجود تلك الوحدات، صحّ القول إنّ العلاقات بين وحدات هذا الوجود (الطبيعي ـ الاجتماعي)، التي هي بالأصل مجموعة علاقات بين ذوات وآخر.
نظراً لاتّساع مفهوم «الآخر» ومطاطية المصطلح، اقتصر بعض الدارسين على إطار العلاقات البشرية مع الآخر، أي ما كان بعض أو كلّ أطرافها من البشر، وأهملوا الجوانب الأُخرى.
انطوى تصوير الشيخ الكليني على أنماط متنوّعة وصور مختلفة من صور الآخر، ولكي يقف الدارس على أدقّ المعالم التي رسمها الكليني للآخر، ينبغي عليه «تلمّس منطوق النصّ المحدّد لمعالم الرؤية التي يحملها عن الآخر، وعن المضامين المختلفة التي يمنحها للغير المخالف له في الملّة والدين، وبحكم الترابط بين العقائدي والروحي والقدسي والرمزي في الإسلام، فإنّ البعض قد يركّز في مقاربته لهذا الموضوع، على البعد الميتافيزيقي الذي يحمله النصّ». ۴
يتجلّى حضور الآخر في هذا العالم في مستويات متعدّدة بحسب فعل الفهم للنصّ القرآني، إذ يعدّ الشرط الرئيس في تحديد معالم الآخر وتحوّلاته وطرائق التعامل معه؛ لأنّ النصّ القرآني «هو الفضاء الدلالي لصورة اللّه في الوعي الإنساني وقناة العبور إلى مقاصد اللّه » ۵
. إذ إنّ العلاقة مع الآخر تحدّدها وجهة التسليم بقصدية الخلق، وما يترتّب على هذه العلاقة بمختلف صورها، وهي علاقات مقنّنة، أي تخضع عموماً لقوانين وسنن معيّنة، وقد حقّق الإنسان تقدّماً ملحوظاً في اكتشاف بعض قوانين العلاقة مع الآخر في المجال المادّي، بينما ما زال كسب الإنسان في اكتشاف سنن العلاقة مع الآخر في المجال الاجتماعي محدوداً.
لقد اختصّ البحث بصورة الآخر الفكري عند الشيخ الكليني رضى الله عنه المغاير أو المتمايز في العقيدة والأفكار، فثمّة صور متنوّعة للآخر الذي يتغاير بالقياس إلى النوع (الملائكة، الجنّ، إبليس)، عرضها شيخنا ضمن شبكة علائقية ردّا على معتقدات القدرية من جهة، ومدافعا عن العقيدة الإمامية من جهةٍ أُخرى، وقد جسّد القرآن الكريم هذا العنصر في حوارات متعدّدة، بدءاً من نشأة الخليقة والتكوين، إلى مميزات الذات الإنسانية وسلوكياتها المحبّبة والمرفوضة، وما يترتّب عليها من انفصال أو اندماج.
لذلك نرى أنّ هذا العنصر يجيء تارةً على ألسنة الملائكة في إثبات صفة الطاعة والعبودية، كقوله تعالى: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ»۶ ، ويجيء تارةً على لسان إبليس، كقوله تعالى: «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِننَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» . ۷
وقد شكّل هذا التمايز النوعي صورة من صور الآخر ـ في النشأة والتكوين ـ يمكن بحثها في دراسات لاحقة، وإذا ما تدرّجنا بعد ذلك إلى المواقف الإنسانية والأفكار والوظائف والمعتقدات والسلوكيات والأحكام الشرائعية، تظهر لنا صورة أُخرى من هذا الآخر عند الشيخ الكليني أدرجها ضمن أبواب مختلفة، مثل صفات الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، ۸ والأحكام الشرائعية. ۹

1.الغرب المتخيّل: ص ۴۱.

2.مفهوم ومواريث العدد في ضوء عملية التوحيد والسياسات الاُوربية، (صورة الآخر العربي): ص ۵۷.

3.الأنا والآخر في الوعي الديني: ص ۳ ـ ۴، وانظر: الشخصانية الإسلامية: ص ۲۸ ـ ۲۹.

4.الغرب المتخيل: ص ۴۷.

5.الأنا والآخر في الوعي الديني: ص ۵.

6.البقرة: ۳۰.

7.الأعراف: ۱۲.

8.انظر: الكافي للكليني ج ۱ ص ۱۷۴ ـ ۱۹۴.

9.انظر المصدر السابق: ج ۳ ص ۴۳ ـ ۵۵ .

صفحه از 28