الآخر في فكر الكليني، المعتزلة أُنموذجا - صفحه 14

المبحث الثاني: الآخر العقدي

المعتزلة وصور الاختلاف والمغايرة
تتشكّل صورة هذا «الآخر» على وفق التصوّرات العقائدية التي تعتنقها الفئة وما تفرز هذه التصوّرات من مرجعيات متعدّدة حول أُمور التوحيد والخلق والعدل، وما يترتّب على هذه المرجعيات في التغاير والمخالفة ۱ ، وهي على مستوياتٍ عدّة.
المعتزلة هي مدرسة فكرية عاشت في أكناف أهل السنّة، وبعد زمن من نشوئها حدث الخلاف بين رجالها وبين أهل السنّة، مماّ ولّد ذلك الخصام تراثاً عقلياً لكلا المذهبين أغنت المكتبة الإسلامية طيلة قرون عديدة، إلّا أنّ هجمات أهل السنّة على المعتزلة كان عنيفا جدّا، بل إنّهم شوّهوا عقائدهم ورموهم بشتى التهم والمساوئ، وقبّحوا عقائدهم، حتّى أظهروهم للملأ الإسلامي أنّهم مرقوا عن الدين، وأوجدوا البدع فيه.
ظهرت مدرسة الاعتزال في بداية القرن الثاني الهجري في البصرة، وما للبصرة آنذاك من شموخ في عالم العلم والأدب والثقافة، وملتقى العلماء والأدباء وأهل الكلام.
للمعتزلة أسماء مختلفة، منها أسماء خاصّة، وأُخرى عامّة. فأمّا الخاصّة فهي مقتصرة على طائفة منهم، ولا يبعد أن تكون مشتقّة من بعض عقائدهم، نذكر منها:
1 ـ الحرقية؛ لقولهم: الكفّار لا يُحرقون إلّا مرّة.
2 ـ المفنية؛ لقولهم بفناء الجنّة والنار.
3 ـ الواقفية؛ لقولهم بالوقف في خلق القرآن.
4 ـ اللفظية؛ لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة.
5 ـ الملتزمة؛ لقولهم: اللّه تعالى في كلّ مكان.
6 ـ القبرية؛ لإنكارهم عذاب القبر. ۲
وأمّا الأسماء العامّة والمشهورة بين المؤرّخين والعلماء، فهي:
1 ـ المعتزلة: وهو أشهر أسماء هذه المدرسة، والسبب في هذه التسمية كما يذكره البغدادي في كتابه إذ يقول:
إنّ أهل السنّة هم الذين دعوهم معتزلة؛ لاعتزالهم قول الأُمّة بأسرها في مرتكب الكبيرة من المسلمين، وتقريرهم أنّه لا مؤمن ولا كافر، بل هو في منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر ۳ .
وقد ذكر الشهرستاني سببا آخر، فقال:
إنّ واصل بن عطاء مؤسّس المدرسة حين اختلف مع الحسن البصري في مسألة مرتكبي الكبائر وأدلى برأيه فيها، اعتزل مجلس الحسن هو وبعض من وافقه على ذلك الرأي، وجلس قرب إحدى أُسطوانات المسجد يشرحه لهم، فقال الحسن البصري: اعتزل عنّا واصل، فسُمّي هو وأصحابه معتزلة ۴ .
ويرى البعض أنّ الذي سمّاهم بهذا الاسم هو قتادة بن دعامة السدوسي (ت 117 ه)، وكان قتادة من علماء البصرة وأعلام التابعين ۵ .
ولعلّ فكرة الاعتزال لم تأت من إطلاق شخص لتسمية مجموعةٍ ما، أو أنّ فلاناً اعتزل أصحابه فسُمّي ومن معه بالمعتزلة، بل إنّ التسمية جاءت لمعتقدٍ فكري، وهذا المعتقد هو الذي أوجد لهم هذه التسمية. وممّا يؤيّد هذا المفهوم ما تعارف عليه أهل اللغة من إضافة كلمة «أهل» إلى مبدأ ما أو عقيدة أو فكرة.
2 ـ أهل العدل والتوحيد: أطلق المعتزلة على أنفسهم اسم أهل العدل والتوحيد، إذ إنّهم يعنون بالعدل هو نفي القدر، والقول بأنّ الإنسان هو موجد أفعاله، تنزيهاً للّه تعالى عن أن يُضاف إليه الشرّ. ويعنون بالتوحيد هو نفي الصفات القديمة، والدفاع عن وحدانية اللّه جلّ شأنه. فالمعتزلة تفتخر بهذه التسمية، ويفضّلونها على سائر الأسماء ۶
.
3 ـ أهل الحقّ: ومن الأسماء المحبّذة التي أطلقها المعتزلة على أنفسهم اسم «أهل الحقّ»، حيث يرون أنفسهم هم الفرقة الناجية، بل يرون أنّ غيرهم على باطل ! هذه بعض الأسماء المحبّذة التي أطلقها المعتزلة على أنفسهم، إلّا أنّ خصومهم ـ ولاختلافهم في المعتقد والتفكير ـ أطلقوا على المعتزلة عدّة أسماء وعناوين، معتمدين في ذلك على المعتقدات التي التزمها المعتزلة في تفكيرهم، والتي أصبحت أُصولاً لمذهبهم. وعلى الإجمال نذكر بعضها:
أ . المعطّلة: أصل التسمية كانت تُطلق على مذهب الجهمية، نسبة إلى مؤسّسها الأوّل جهم بن صفوان، ( ت 128 ه )، والمدرسة الجهمية ظهرت قبل المعتزلة، إذ كانت تنفي الصفات عن اللّه جلّ شأنه، أي تجريده تعالى منها، ولمّا ظهرت المعتزلة أخذت عن الجهمية قولها بنفي الصفات، فلزمهم الاسم المتقدّم «المعطّلة».
ومن معاني التعطيل، هو تعطيل ظواهر الكتاب والسنّة عن المعاني التي تدلّ عليها، وقد لجأ المعتزلة إلى الآيات التي لا توافق مشاربهم وأفكارهم إلى تأويلها، ولا يستبعد أن يكون ذلك سبباً في هذه التسمية. ومن أشهر الكتّاب الذين أطلقوا هذه التسمية على المعتزلة هو ابن القيّم الجوزية ۷ .
ب . الجهمية: وهي نسبة إلى مؤسّس المدرسة جهم بن صفوان، ظهرت هذه المدرسة قبل المعتزلة، وقالت بالجبر، وخلق القرآن، ونفي الصفات، وإنكار الرؤية، ولمّا ظهرت المعتزلة أخذت ببعض أقوال هؤلاء، وانتحلت أفكارهم، ممّا كان سببا في تسميتهم من قبل أهل السنّة بالجهمية. والجدير بالذكر أنّ الردود التي كُتبت من قبل علماء السنّة المتأخّرين كابن حنبل ومن جاء بعده، إنّما كانوا يقصدون بالجهمية هم المعتزلة. أمّا علماء السنّة المتقدّمين على ابن حنبل، إنّما كانت ردودهم على الجهمية هي الاُولى، أتباع جهم بن صفوان؛ لأنّهم أسبق من المعتزلة ۸ .
ج . القدرية: من عقائد المعتزلة قولهم بأنّ الناس هم الذين يُقدّرون أعمالهم، وأنّ اللّه سبحانه ليس له فيها صنع ولا تقدير، غير أنّ هذا المعتقد كان سائدا بين مجموعة سبقت المعتزلة ذات مدرسة متميّزة، مؤسّسها معبد الجهني وغيلان الدمشقي، القائلين بالقدر خيره وشرّه من اللّه سبحانه. ولمّا كان المعتزلة يعتبرون غيلان الدمشقي واحدا منهم، وهذا من القائلين بالقدر، إذن من البديهي أن يتّفقا على هذه التسمية، بل قل: إنّ المؤرّخين لم يفرّقوا بين الطائفتين ۹ .
والمعتزلة تعتقد بأُصولٍ خمسة، هي:
1 ـ التوحيد.
2 ـ العدل.
3 ـ الوعد والوعيد.
4 ـ المنزلة بين المنزلتين.
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أمّا ما اتّفق فيه من الصفات بينهم، فقد اتّفقت المذاهب الثلاثة (الإمامية والمعتزلة والأشاعرة) على جملة أُمور، منها:
1 ـ إنّ صفات اللّه سبحانه منها ما هو ذاتي ثابت لذاته، كالعلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر، ومنها ما هو إضافي يثبت لذاته بعد وجود المنشأ لانتزاعها، كالرازق والخالق والمالك والمميت، وغير ذلك ممّا تتّصف به الذات بعد وجود منشأ لانتزاعها؛ لأنّ صدق الخالق والمالك والرازق والمميت عليه سبحانه إنّما صحّ باعتبار وجود المخلوق والمملوك والإماتة.
2 ـ قسّم المتكلّمون الصفات إلى قسمين: سلبية وثبوتية، فالسلبية: هي نفي ما لا يليق بذاته عنه؛ لكونه جسما أو جوهرا أو عرضا... والثبوتية: فهي التي تليق بذاته، كالعلم والقدرة والسمع والبصر والمحيي والرازق.
3 ـ اتّفق الإمامية والمعتزلة على عدم كونه جسما؛ لأنّ كونه جسما يلزمه أن يكون متحيّزا، وأن يكون جوهرا لو كان متحيّزا، وإذا كان جوهرا، فإمّا أن لا ينقسم أصلاً، أو ينقسم، وكلاهما لا يجوز عليه سبحانه.
أمّا الأوّل: فلأنّ الجوهر الذي لا ينقسم هو الجزء الذي لا يتجزّأ، والجزء الذي لا يتجزّأ أصغر الأشياء، وتعالى اللّه عن ذلك.
وأمّا الثاني: فلو انقسم كان جسما مركّبا، والتركيب الخارجي يتنافى مع الوجود الذاتي.
هذا بالإضافة إلى أنّه لو كان متحيّزا لكان مساويا لسائر المتحيّزات في الماهية، واللّازم من ذلك إمّا القدم أو الحدوث؛ لأنّ المتماثلات لابدّ من توافقها في الأحكام.
هذه جملة من العقائد عند المعتزلة والأشاعرة ما اختلفوا فيها وما اتّفقوا عليها. هذه الحالات التي جنتها أيدي علمائهم، وتلك المنافسات التي اشتركت فيها أغلب الفرق الإسلامية والاتّجاهات العلمية، صيّرت من علماء الشيعة الإمامية أن يقفوا ضدّ كلّ تيارٍ منحرف، أو عقيدة خاطئة، لأجل ذلك تظافرت الهمم، ودخل علماء الإمامية في تلك المناظرات بكلّ إمكانياتهم العلمية ليضعونها للمسلمين، ومن خلال ذلك النزاع برزت مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وقد نقلها لنا الشيخ الكليني بكلّ أمانة ودقّة، بل اهتمّ كثيراً في إبراز معالم هذه المدرسة بتبويب الأحاديث وتصنيفها وفق المسائل التي كانت بارزة، والتي هي مدار بحث وجدل، وفي مقدّمة تلك المسائل موضوع التوحيد

1.انظر: الغرب المتخيل: ص ۶۱.

2.انظر الكليني والكافي للشيخ عبد الرسول الغفّار: ص ۲۷۵.

3.الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي الأشعري: ص ۹۴ و ۹۸.

4.الملل والنحل للشهرستاني: ج ۱ ص ۵۵ .

5.انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: ج ۱ ص ۶۰۹.

6.انظر: الكليني والكافي للشيخ عبد الرسول الغفّار: ص ۲۷۷.

7.انظر: الكليني والكافي: ص ۲۸۱.

8.انظر: الملل والنحل: ج ۱ ص ۵۰.

9.انظر: المعارف لابن قتيبة الدينوري: ص ۲۰۷.

صفحه از 28