مع الكلينى وكتابه "الكافى" - صفحه 72

وإلى جانب هذا الانهيار السياسى فقد تعرّضت بغداد نفسها لمخاطر الاجتياح المرتقب فى ذلك الوقت من الحدود المتاخمة لها من كلّ صوب؛ لكثرة الحركات الانفصالية عن الدولة التى كوَّنت كيانات قويّة هدّدت بغداد مرّاتٍ عديدة،كحركة القرامطة التى فتكت بجيش الحاكم العباسى فتكا ذريعا، حتى اضطرّت السلطة إلى تعطيل قوافل الحجّ سنوات طويلة، كلّ ذلك خشية من فتك القرامطة ومجازرهم الرهيبة. ۱ وبالجملة، فإنّ فقدان الاستقرار السياسى فى بغداد فقدانا تامّا كان من أبرز معالم الحياة السياسية فى ذلك العصر الذى عاشه الكلينى رحمه الله. ويكفى أن جعلت الانتكاسات الخطيرة التى مرّت بها الحياة السياسية فى بغداد، الطريق ممهّدا لدخول البويهيّين إلى بغداد سنة 334ق بعد وفاة الكلينى رحمه الله بخمس سنوات.والحقّ، إنّ هجرة الكلينى من الرى وهى فى قبضة السامانيين، إلى بغداد ـ قبل سنة (310ق) ـ وهى فى قبضة الأتراك، إنّما كانت هجرةً علميّة خالصة لا دخل لأيّ شي ء غير علميّ فيها بأيّ شكل من الأشكال. واختيار بغداد بالذات ما كانَ اعتباطا، وإنّما لاعتبارات علميّة كثيرة ولعلّ فى مقدمتها شهرة بغداد من الناحية العلمية،إذ لا تكاد تجد عالما شيعيّا أو سُنيا إلّا وقد وفد إلى بغداد فى ذلك العصر لاعتبارها من أرقى مراكز العلم والدين فى ذلك الحين، إذ لم تؤثر الأحداث السياسيّةالخطيرة على تطوّر الفكر فى بغداد أو تشلّ حركته، بل حصل العكس تماما، حيث بلغت علوم الشريعة واللغة والأدب والفلك والطب والجغرافية والتاريخ قمّتها على أيدى العلماء الوافدين إلى بغداد من كلّ مصر، حتى أصبحت فى عصر الكلينى بالذات من أهمّ مراكز الإشعاع الفكريّ فى العالم الإسلاميّ، وصارت مُنتدى العلماء والفقهاء والمفكّرين، وتنوّعت فيها الثقافة، وسادت بها آراء المذاهب، وتوسّعت فيها ألوان الدراسة فشملت أبواب العلوم والمعارف المختلفة لا سيّما علوم الشريعة الغرّاء، ولا

1.تجارب الاُمم، ج ۱، ص ۱۲۰؛ فوات الوفيات لابن شاكر الكتبى، ج ۱، ص ۳۵۳؛ وصبح الاعشى للقلقشندى، ج ۴، ص ۱۶۸، وانظر: قرامطة العراق لمحمّد فتاح عليان.

صفحه از 140