11
العنعنة

تمهيد

الطرق الثمان لرواية الحديث وألفاظ التحمّل والأداء بها

بما أنّ الحجّة على المكلّفين لا تتمّ إلّا بالبلوغ إليهم ، وذلك خاصّة بإبلاغ الشارع المقدّس ، ومن جعله واسطةً في تبليغ أحكامه ومراده ، فقد سعى علماء الحديث الشريف في تحقيق هذا الأمر الهامّ بتحديد مصداقيّة البلوغ المذكور من خلال ( الطرق الثمان لتحمّل الحديث وأدائه ) ؛ كي تتمّ بها الحجّة على الأنام . وهي : ( السماع ، والقراءة « وتُسمّى : العرض » ، والإجازة ، والمناولة ، والمكاتبة ، والإعلام ، والوصيّة والوجادة ) .
ثمّ جعلوا لكلّ واحدةٍ منها لفظا أو أكثر يخصّها ويُستعمل معها ؛ للدلالة على الأخذ بها ، وكذلك في الأداء ، تحديدا لكلّ منها ، وترتيب ما تقرّر عندهم من الآثار عليها .
وقد استقطبت هذه الطرق وألفاظها من علماء الفنّ جهودا واسعةً ، من حيث حصرها في الثمان من دون زيادة أو نقصان ، ومن حيث حجّية كلّ ودليله ، ومن حيث ما لكلّ منها من الشروط والقيود ، ومن حيث الألفاظ الدالّة عليها ، وسائر ما دار حولها في هذه الحيثيّات من بحوث ومناقشات.
والأكثرون على أنّها « ثمانٍ » بالترتيب الآتي :
1 ـ السماع ، ومنه الإملاء .
وهو : قراءة الشيخ من كتابه أو من حفظه على الراوي ، سواءً كان وحده ، أو معه غيره ، فإن كتب الراوي حال قراءة الشيخ فهو « الإملاء » . وهذا أفضل الطرق ، والإملاء أفضل أنواعه عند جمهور العلماء .
2 ـ القراءة ، وتسمّى « العرض » .
وهي : القراءة لأحاديث الشيخ على الشيخ ، مع سماعه وتصديقه ، سواءً قرأ الراوي من كتابٍ أو حفظٍ ، فللقارئ ولمن يسمعه في المجلس حقّ الرواية بهذه الطريقة . والأكثر على أنّ هذه الطريقة دون السماع في الرتبة .
3 ـ الإجازة .
وهي : إعلان الشيخ عن الإذن للراوي بتحمّل حديثه الّذي اعترف الشيخ بتحقّق ضبطه عنده ممّا وصل إليه من النصوص بالطرق المقرّرة . والأكثر على اعتبارها ، وأنّها ثالثة الطرق بعد السابقتين .
4 ـ المناولة .
وهي : أن يُعطيَ الشيخُ نصّا للراوي مصرّحا بأنّه من حديثه الّذي قد تحمّله من مشايخه .
5 ـ المكاتبة .
وهي : أن يكتب الشيخ إلى الراوي ، حديثه ، سواءً بحضور الراوي أم كونه بعيدا ، أو يكتب إليه : أنّ الحديث الفلاني من روايته ، وسواءً كانت الكتابة بخطّه ، أم بخطّ غيره من ثقاته ، إذا صدّقه .
6 ـ الإعلام .
وهو : أن يُعلن الشيخُ للراوي بأنّه قد روى الحديث المذكور وتحمّله ، من دون تسليمه له .
7 ـ الوصيّة .
وهي : أن يُوصي الشيخ قبل سفره أو موته بتسليم حديثه إلى الراوي .
8 ـ الوجادة .
وهي : أن يجد الراوي نصّا بخطٍّ يعرفه للشيخ ، سواءً كان ممّن عاصره ، أو لا ، من دون أن يكون قد تحمّله بإحدى الطرق السابقة .
والمهمّ في الطريقيّة لكلّ منها بعد كونها مقبولة عند الشارع بما هو من العقلاء ، أن يتحقّق في كلّ طريقٍ عنصرُ إشراف الشيخ على النصّ ، وارتباطه به ، وتحقّق ذلك عند الراوي بصورةٍ معترفٍ بها شرعا وعرفا ، أو مميّزا عند علماء الفنّ ؛ للتأكّد من ( ضبط ) المرويات ، كي يمكن الاستناد إليها والاعتماد عليها .
ومن أجل إحراز هذا العنصر ، وقع الخلاف في اعتبار بعض الطرق ، بعد التزام الأكثر بعدم تجاوزها عن الثمان . وقد وفّقنا اللّه عزّ اسمه لجمع ما يرتبط بـ ( الطرق الثمان ) من بحوث في كتاب بهذا العنوان ، ونرجو توفيقه لإخراجه .
وكذلك جَرَوْا على تعيين (ألفاظ التحمّل والأداء) .
فقد عيّنوا لكلّ من هذه الطرق ما يدلّ عليها عند التحمّل بها ، وحين الأداء كذلك ؛ لتتميّز عن بعضها ولا تختلط فيما بينها ، وذلك بغرض الاستفادة من ميّزات كلٍّ ، وخصائصها المذكورة لكلٍّ .
وقد وفّقنا اللّه جلّ وعزّ للبحث عن هذه الألفاظ في رسالةٍ جامعة بعنوان : ( صيغ التحمّل والأداء للحديث الشريف : تاريخها ، ضرورتها ، فوائدها ، واختصاراتها ) ، نشرت في مجلّة علوم الحديث الّتي تصدرها كلّية علوم الحديث في طهران ، في العدد الأوّل السنة الأُولى 1418ه ، الصفحات 84 ـ 182 ، استوعبت ما يرتبط بجوانبها كلّها .
وقلت فيها : ممّا قرّروه في باب ( التحمّل للحديث وأداؤه ) هو الصيغ والألفاظ الخاصّة الّتي تؤدّي بها رواية الحديث ، وفي المراحل والأدوار المتعاقبة تعدّدت تلك الألفاظ وتكاثرت حسب الحاجة الّتي هي أُمّ الاختراع ، فحدّدوا لكلّ طريقةٍ لفظا أو أكثر ، واصطلحوا بكلّ لفظٍ أو أكثر لطريقٍ معيّنةٍ ، ورتّبوا على هذا التحديد والاصطلاح آثارا اعتباريّةً ، وحكموا لها بأحكامٍ خاصّةٍ ، تزيد من روعة هذا العلم ، ويدلّ على مزيد دقّة المحدّثين ومزيد عنايتهم بشؤونه ، وتدفع المتعلّم على متابعة جهودهم لمعرفة مصطلحاتهم ۱ .
وقلت : فاللفظ المعبّر عن نسبة الحديث إلى ناقله ، لابدّ أن يكشف عن بلوغه إلى ناقله ، ويتمّ به الربط بين الناقل والراوي ، ويصرّح كذلك بالطريقة الّتي تمّ بها البلوغ والربط ، ويتمكّن السامع والقارئ بعد معرفة تلك الأُمور : البلوغ ، والطريقة ، والربط من الحكم على الحديث والنصّ بما يناسب ۲ .
وقد حافظوا على تلك الصيغ والألفاظ بحيث لم يجوّزوا إبدال أحدها بالآخر ؛ حذرا من ارتباك المصطلحات وتداخلها ، فقد قال الشيخ العاملي والد البهائي رحمهماالله : لا يجوز عندهم إبدال كلّ من « حدّثنا » و « أخبرنا » بالآخر ، في الكتب المؤلّفة ۳ .
وقال أحمد بن حنبل : اتّبعْ لفظَ الشيخ في قوله : « حدّثنا » و « حدّثني » و «سمعت » و « أخبرنا » ولا تَعْدُه ۴ .
وأقدم مَن عُرف منه الاصطلاح بالألفاظ والالتزام بها لكلّ طريق هو المحدّث الأقدم الشهير أبو مريم الأنصاري ، عبد الغفّار بن القاسم ( ت 160 ه ) ، وهو من أصحاب الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام ( ت 148 ه ) ، وهو من كبار محدّثي الشيعة .
وقد اعترف العامّة له بهذا . قال ابن حجر : كان ذا اعتناءٍ بالعلم والرجال . وقال شعبة : لم أرَ أحفظَ منه . وهو شيخ شعبة الّذي قالوا فيه : « أمير المؤمنين في الحديث » ۵ .
ونسب بعضهم نشأة هذه المصطلحات إلى شعبة ، ولكنّ عليّ بن المديني قال : إنّما تعلّم شعبة هذا التدقيق من أبي مريم عبد الغفّار بن القاسم ۶ .
وقد كان من آثار غمط الحقّ ذلك أن أُهمل تُراث الشيعة ، وطُوي ذكرهم في علوم الحديث ، وفي المصطلح خاصّة ؛ لتقديم العامّة المتأخّرَ وتأخيرهم المتقدّمَ ، وإلّا فالحقّ ما قاله الحافظ الكبير أحمد بن محمّد بن عقدة الكوفي ، وهو يُثني على أبي مريم ويُطريه ، حين قال : لو ظهر علم أبي مريم ما اجتمع الناس إلى شعبة ۷ .
وإليك قائمة مقتضبة بألفاظ كلّ طريق ، ممّا هو المشهور بين المحدّثين :
1 ـ طريقة السماع ، ألفاظها : سمعتُ ، حدّثنا .
2 ـ طريقة القراءة ، ألفاظها : قرأت على ، أخبرنا .
3 ـ طريقة الإجازة ، ألفاظها : أجاز لي ، أنبأنا .
4 ـ طريقة المناولة ، ألفاظها : حدّثنا مناولة ، ناولني .
5 ـ طريقة المكاتبة : حدّثنا أو أخبرنا مكاتبة ، كاتبني .
6 ـ طريقة الإعلام : أخبرني أو حدّثني إعلاما ، أعلمني بـ .
7 ـ طريقة الوصيّة : أخبرني أو حدّثني وصيّة ، أو أوصى لي .
8 ـ طريقة الوجادة : وجدت بخطّ فلان .
وهذه أصرح الألفاظ المتّفق عليها بين المحدّثين وأقواها ، وأدلّها لكلّ طريقة ، مع أنّ لكلّ منها ألفاظا أُخرى مختلفاً فيها ، وقد ذكرناها مفصّلةً في ذلك البحث المنشور .
هذا كلّه إنّما هو على مذهب التشديد في الالتزام بالألفاظ الخاصّة مع كلّ طريقٍ ، وأمّا على مذهب التسامح في ذلك والتسوية بين الألفاظ في تحقّق الهدف الأساسي منها كلّها ، وهو أمرٌ واحدٌ ، أعني إيصال الحديث إلى الراوي وإبلاغه إليه ، والإعلام عن اتّصاله به بإحدى الطرق الثمان المعتبرة عند العلماء ، فلا فرق في الأداء بين لفظٍ وآخر ، وهذا هو الرأي المختار .
وهذا أيضا ممّا استوعبنا البحث عنه وإثباته في ذلك البحث المنشور . ولكن بما أنّ الهمم تقاعست عن التعمّق في المعارف الدينية ، وظهرت على واجهات المحافل ومسارح البحث العلمي أسماء ضحلةٌ لا تمتّ إلى العلم بنسبٍ ولا سببٍ ، وأقام في مدارس العلوم مَن لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، وأصدروا من الكتب والبحوث والمسودّات ما لا يعود على العلم إلّا بالعار ، حتّى صحّ أن يقال فيها :
لقد هزلتْ حتّى بدا من هُزالهاكُلاها وحتّى سامها كلُّ مفلسِ
فإنّ أحد المتطفّلين على البحث الفقهيّ منهم قد تعلّق بأحد الألفاظ الّتي وقع بين أعلام المحدّثين البحث الواسع حوله ، وهو لفظ « عن » الّذي استُعمل في الأسانيد بكثرةٍ ، ووقع في جميع طرق التحمّل والأداء ، فوقع الخلاف الشديد في الأداء به ، فمنع من ذلك بعضٌ واعتبره تدليسا ، وفصّل آخرون ، واعتبر بعض كلمة « عن » من الاختصارات البديلة عن ألفاظ الأداء والتحمّل ، بل جعلها من أهمّ اختصاراتها ۸ .
بل قد صرّح العلائي من علماء الفنّ أنّه : إذا ظهر الفعل (أي : لفظ الأداء في أوّل السند) كان قرينةً على حمل جميع ما بعده عليه ، فإذا قال الراوي في أوّل السند : « حدّثنا » أو « أخبرنا فلانٌ » حُمِلَ جميعُ ما بعده من « العنعنة » على ذلك ۹ .
ومع هذا فإنّ دعوى ذلك المتطفّل على موائد العلم والعلماء ، من أدعياء الاجتهاد الّذين كثروا هذه الأيّام ! خطيرةٌ جدّا ، حيث اغترّ بما قرأ في الصحف من دون وعيٍ ولا هداية مرشدٍ ، والتزم بشبهةٍ قديمة أكل الدهر عليها وشرب ، مضمونها : أنّ الحديث المعنعن وهو المحتوي سنده على لفظة « عن » بدل ألفاظ الأداء الأُخرى ، منقطعٌ لا حجيّة له ولا اعتبار به . وقد طرح هذه الشبهة في صدد حديثه عن كتاب الكافي الشريف للإمام الكليني ، أوّل الأُصول وأقدمها وأكبرها وأهمّها وأفضلها .
وإذا عرفنا أنّ التراث الحديثي عند المسلمين عامّةً وكافّةً ، مليءٌ بالحديث المعنعن ، بل لا يخلو كتابٌ منها ، تعرف مدى التعدّي الآثم الّذي جناه ذلك المتشيّخ الجاهل على العلم والعلماء والتراث الحديثي المقدّس .
ومن هنا نرى بوضوحٍ أهمّية البحث عن الحديث المعنعن ، بالتفصيل عن : العنعنة : واقعها ، وأحكامها ، وآثارها .
وسنفصّل في هذا البحث عن الشبهة المزعومة والمثارة ، ونفنّد مزاعم هذا المتعدّي ، ونبدّد شمل مقاصده ، في فصول :

1.علوم الحديث ، العدد الأوّل : ص ۸۸ .

2.المصدر السابق : ص ۹۰ .

3.وصول الأخيار : ص ۱۳۳ .

4.علوم الحديث لابن الصلاح : ص ۱۴۴ ؛ مقدّمة ابن الصلاح : ص ۲۵۶ .

5.لسان الميزان : ج ۴ ص ۴۱۴۳ .

6.معرفة الرجال لابن معين : ج ۲ ص ۲۱۰ رقم ۷۰۲ .

7.لسان الميزان : ج ۴ ص ۳ ۴۱۴ .

8.لاحظ الفصل الخامس من البحث المذكور في علوم الحديث ، العدد الأوّل : ص ۱۱۶ و ۱۷۶ .

9.جامع التحصيل : ص ۱۱۷ .


العنعنة
10
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93543
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي