7 ـ موقع العنعنة بين صِيَغ الأداء وألفاظه :
يظهر من تتبّع كلماتهم أنّ موقع « عَنْ » قد اختلف مع مرور الأزمان .
1 ـ فالشافعي ( ت 204 ه ) يقول : كان قول الرجل : « سمعت فلانا يقول : سمعت فلانا » وقوله : « حدّثني فلانٌ عن فلان » سواءً عندهم ، لا يحدِّث واحدٌ منهم عمّن لقي إلّا ما سمع منه ، ممّن عناه بهذه الطريق قبلنا منه : « حدّثني فلان عن فلان » ۱ ، فلم يفرّق بين « سمعت » و « عن » في الأداء .
2 ـ قال أبو زُرْعة : سألت أحمد بن حنبل ( ت 261 ه ) عن حديث أسباط الشيباني ، عن إبراهيم ، قال : « سمعت ابن عبّاس » ؟ قال أحمد : « عن ابن عبّاس » . فقلتُ : إنّ أسباطا هكذا يقول : « سمعت » ؟ ! فقال : قد علمتُ ، لكن إذا قلتُ : « عن » فقد خلّصتُهُ وخلّصتُ نفسي ؛ أو نحو هذا المعنى ۲ . فقد أبدل أحمد « سمعت » ب« عن » بل يظهر منه أنّ « عن » عنده أحوط . ومن الواضح أنّ ما ذكره لا يتمّ إلّا إذا كانت « عن » تؤدّي مؤدّى « سمعتُ » عنده .
3 ـ وقد مرّ في كلام مسلم في مقدّمة صحيحه أنّه حمل رواية العنعنة على السماع أبدا ۳ .
4 ـ وقال الدربنديّ : عنعنة المعاصر محمولةٌ على السماع ۴ .
5 ـ وحملها بعضهم على السماع بشرطين ۵ . فلو تحقّق الشرطان ولو بالأصل كان سماعا .
6 ـ وجعلها العلائي من الألفاظ المحتملة للسماع ، وتطلق في التدليس ۶ . فإذا انتفى التدليس ولو بالأصل ، كان سماعا .
7 ـ وصرّح الشهيد الثاني ( ت 965 ه ) بأنّ « عن » مشترك بين السماع والإجازة ۷ . وغرضه بلا ريب ما هو المتعارف عند المتأخّرين ، لِما عرفت في الفقرة الخامسة من هذا البحث .
8 ـ ونقل الشهيد الثاني عن بعضهم أنّه استعمل في الإجازة الواقعة في رواية مَنْ فوقَ الشيخ المُسْمِع بكلمة « عنْ » ، فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه : « قرأت على فلان عن فلان » ليتميّز عن السماع الصريح ، وإن كان « عن » مشتركا بين السماع والإجازة ۸ . وهذا جارٍ على عرف المتأخّرين ، كما سبق .
9 ـ وقال والد البهائي ( ت 984 ه ) : إنّ « عن » يُستعمل في الأعمّ من الإجازة ومن القراءة والسماع ۹ . وإطلاق هذا الكلام يقتضي كونه نقلاً عمّا تعارف بين المتأخّرين .
ويلاحظ أنّ « عَنْ » في القديم كانت تُقرَن ب « سمعتُ » الّتي هي صيغة الأداء عن « السماع » ، وهو أقوى الطرق وأعلاها بالإجماع ، وهذا يدلّ على مكانة « عَنْ » ودلالتها اللغويّة والاصطلاحيّة بوضوح .
وأمّا ما آل إليه أمر « عَنْ » فهو مجرّد اصطلاح متأخِّر ، مع أنّه لا أثر له على الأسانيد « المعنعنة » ؛ لثبوت الحكم بالاتّصال فيها بإجماع المتقدّمين والمتأخّرين ، كما صرّح ابن الصلاح بذلك ، وعبارة الشهيد الثاني ووالد البهائي ناظرتان إلى تعقّب ابن الصلاح ، كما عرفنا في الفقرة السابقة .
ومن هنا نعرف أنّ من أفحش الأغلاط التشكيك في الأحاديث المعنعنة ؛ لاحتمال أداء « عَنْ » فيها لخصوص طريقة « الإجازة » ، كما صنعه بعضُ المغفّلين في عصرنا ، وسيأتي نقل تشكيكه والردّ عليه في فصل « الإشكالات على العنعنة » .
1.الرسالة : ص ۳۷۹ .
2.طبقات الحنابلة : ج ۱ ص ۲۰۳ .
3.صحيح مسلم : ج ۱ ص ۲۳ .
4.القواميس : ورقة ۲۶ .
5.توثيق السُنّة : ص ۱۹۶ رقم ۳۶۲ .
6.جامع التحصيل : ص ۱۱۶ .
7.شرح البداية : ص ۱۰۷ .
8.المصدر السابق : ص ۱۰۷ ، وقد صوّبنا من النصّ كلمة « المستمع » إلى « المُسْمِع » ، إذ المفروض أنّ الشيخ قد أسمع في المقام وليس مستمعا ، فلاحظ .
9.وصول الأخيار : ص ۱۰۱ .