51
العنعنة

9 ـ استعمال « عن » في البلاغات :

وحالة أُخرى لاستعمال « عن » هي الرابعة ، لم يذكرها العلائي ولا غيره ، وهي المستعملة مع قول الراوي : « بلغني عن فلان » . وقد وقع هذا في تراث العامّة بكثرة ، وورد في تراثنا قليلاً جدّا ، وموارده على قلّتها ظاهرة في الانقطاع ، مثل ما أُسند إلى ابن سيّابة ، قال : بلغنا عن أبي جعفر عليه السلام ۱ . والراوي لم يلق أبا جعفر عليه السلام كما يظهر من كتب الرجال . وما نُقل عن نصر بن قابوس في قوله لأبي الحسن الماضى عليه السلام ، وهو الإمام الكاظم عليه السلام : بلغني عن أبيك ۲ ، ويقصد بقوله : « أبيك » جدّه الإمام الحسين عليه السلام ، فليلاحظ .
ويمكن أن يُفهم عدم إرادة الاتّصال من أنّ الراويَيْن هنا بصدد الاحتجاج والاستدلال ، لا النقل والرواية . نعم ، ورد في بعض أحاديث الإمام الباقر أبي جعفر عليه السلام قوله : « بلغني أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمقال » ۳ . أو : « بلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يقول » ۴ .
وهو حديث مؤنّن ، وليس بمعنعن ، وهو يفيد تحقيق بلوغ المرويّ إلى الراوي الّذي هو الإمام عليه السلام . مع أنّ البحث عن روايات الأئمّة : يختلف ، لِما ثبت في حقّهم مِن كون ما يروونه كلّه متّصلاً بالرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وإن كان بظاهر الإرسال ، لِما ثبت عنهم من القاعدة العامّة في أنّ حديثهم حديث آبائهم عن جدّهم صلّى اللّه عليهم أجمعين ، وقد أثبتناه في موضع آخر ۵ .
كما وردت كلمة « بلغ » متعدّية بالباء في قول الراوي « بلغ به أبا عبد اللّه عليه السلام » ۶ و « بلغ به زرارة » ۷ ، ولا ريب أنّ المقصود معناها اللغوي بمعنى « رفع » ونحوه ، وأكثر ما استعمله من العامّة هو مالك بن أنس صاحب الموطّأ ، حتّى اشتهرت موارده ب « بلاغات مالك » . ويقال في التعبير عنه عند الأداء : « قال فيما بلغه » أو « رواه بلاغا » .
والفعل « بَلَغَ » بمعنى وَصَلَ ، وفاعله الحديث البالغ إلى الراوي ، والمجرور ب « عن » هو المبلَّغ عنه ، وأمّا المبلِّغ فهو غير مذكور في ظاهر اللفظ ، فيكون الحرف « عن » بمعنى « التجاوز » على ما هو الأصل فيه ، والمعنى : أنّ الحديث تجاوز فلانا وبَلَغني ، والواسطة في النقل عنه إلى الراوي غير مذكورة .
هذا ما استظهره المحدّثون من البلاغ ، وحملوا عليه بلاغات مالك بالخصوص ، والدليل على هذا الاستظهار أُمور :
1 ـ قال المارديني : ما ذكره أبو عبيدة بلاغ لم يُذكر مَنْ بلّغه ليُنظر في أمره ۸ .
2 ـ تعبيرهم عن المرسَل وغير المتّصل ب « البلاغ » . قال البيهقي في حديثٍ رواه أبو بكر بن حزم : لم يسمعه من ابن مسعود الأنصاري ، وإنّما هو بلاغ بلغه ، وقد روي ذلك في حديث آخر مرسَل ۹ .
وقال أيضا في حديثٍ لابن سيرين وقتّادة عن ابن عبّاس : هذا بلاغ بلغهما ، فإنّهما لم يلقيا ابن عبّاس ۱۰ .
ونقله المارديني عن البيهقي في الخلافيّات ، في حقّ ابن سيرين عن ابن عبّاس .
3 ـ حكمهم على ما أورده مالك بلاغا ، بالإرسال تارةً وبالانقطاع أُخرى وبالإعضال ثالثة :
* فقد نفوا أن يكون الموطّأ من كتب الصحاح كما ادّعاه بعضهم ۱۱ استنادا إلى ما فيه من « المراسيل » الّتي هي بلاغاته ۱۲ .
* جزم الشافعي إمام المذهب في رواية رواها مالك بلاغا ، بأنّ طرقه ليس فيها شيء موصول ۱۳ .
وقال ابن الصلاح في بلاغ له : فهذا منقطع ؛ لأنّ الزهري لم يسمع من ابن عبّاس ۱۴ .
وقال الأندلسي : هذا الحديث عند مالك بلاغ لم يُسنده ۱۵ .
* وحكموا على بعض بلاغاته بالإعضال ۱۶ .
* محاولة بعضهم أنّ يجد للبلاغات طرقا أُخرى يثبت بها الاتّصال ، كما سيأتي ، فإنّ هذا يدلّ على عدم اتّصال البلاغ في نفسه .
ومن هنا فإنّ البلاغ في نفسه إنّما هو من نسق المرسَل أو المنقطع أو المعضل ، وكلّ واحد من هذه يُعدّ قسيما « للصحيح » عند العامّة ، وهو يشترط فيه الاتّصال ، وكلّ واحد منها أسوأ حالاً من الآخر ۱۷ ، وهذا هو الأصل والقدر المتيقّن الّذي يمكن أن يقال في حقّ البلاغات . ولقد تجرّأ ابن حزم على الإفصاح عن هذه الحقيقة في بعض الموارد ، فقال في ( بلاغ ) نقله عن الموطّأ : هذا « بلاغ » لا يصحّ ۱۸ ، وقال في مورد آخر : هو عن ابن عمر « بلاغ » كاذب ۱۹ ، كما استضعف البيهقي وغيره بعض ما روي بالبلاغ ۲۰ .
وللدهلوي كتاب المصفّى باللغة الفارسية ، شرح فيه الموطّأ ، فجرّد فيه الأحاديث ، وحذف أقوال مالك وبعض بلاغاته ۲۱
.
وممّا يدلّ على أنّ البلاغ في نفسه مؤدٍّ إلى التوقّف ، هو ما ذكره ابن حجر في ترجمة ( محمّد بن الحسن بن محمّد رضي الدين الأسعد ) بقوله : كان بعض أُصوله ( بلاغات ) فيها نظر ۲۲ . والتفريق بين هذا الرجل ، وبين رجل مثل مالك ، لمجرّد التشخُّص من التجوّه المذموم قطعا .
وقد بُذِلتْ محاولات يائسة ، للخروج من الحكم على بلاغات مالك بالانقطاع ، أو الضعف :
منها : محاولة إيصال الأحاديث المرويّة بالبلاغ من طرق أُخرى ، فقد أجهد ابن عبد البرّ نفسه في التمهيد فوصل بلاغات مالك جميعا خلا أربعة أحاديث لم يصل أسانيدها ۲۳ ، لكنّ ابن الصلاح وصل الأربعة الباقية في جزء خاصّ ۲۴ . وألّف العلّامة المحدّث أحمد بن محمّد بن الصدّيق الغماري كتاب البيان والتفصيل لوصل ما في الموطّأ من البلاغات والمراسيل ۲۵ .
أقول :
إنّ تبيّن اتّصال الأحاديث من طرق أُخرى إنّما يفيد اعتبار المتون ، ولا يدلّ على كون البلاغات نفسها متّصلةً ، والفرق بين الأمرين واضح ، فإنّ صحّة المتن لا يستلزم اتّصال البلاغ ، مضافا إلى أنّ نفس المحاولة دليل على « انقطاع البلاغ » ، فلو كان في نفسه متّصلاً ، لم يحتج إلى الطرق الأُخرى ، مضافا إلى أنّ تلك المحاولة إنّما تفيد من يحتاج إليها ، لكونه لا يقول بحجّية المرسَل والمنقطع ، كابن عبد البرّ ، وليس مفيدا حتّى لمالك نفسه ، إذ هو يذهب إلى حجّيّة المرسَل ۲۶ .
فالمحاولة لإثبات اتّصالها عند مالك يائسة ! وكذلك محاولة من قال : « إنّ بلاغات الثقات من أهل القرون الثلاثة مقبولة مطلقا ، كمالك وأبي حنيفة والشافعي ومحمّد بن الحسن وأبي يوسف ، وأمثالهم » ۲۷ .
فمع كون الدعوى خارجة عن البحث ؛ لأنّ قبول الحديث وعدمه شيء ، وكونه منقطعا شيء آخر ، فهذه الدعوى تعود إلى قبول المنقطع ، ولا تثبت اتّصال البلاغ ، فهي دعوى باطلة ، لا يرتضيها من قيلت في حقّه ، فقد عرفنا أنّ الشافعي وهو ممّن ذُكر اسمه لم يقبل بعض البلاغات ، وحكم بعدم كونه موصولاً ، فهذا أشبه بتفسير الشيء بما لا يرضى به صاحبه .
ومنها : محاولة إخراج البلاغات من الحديث الضعيف وإدخالها في الحديث الصحيح ، كما قال الزرقاني في شرح الموطّأ : إنّ بلاغ مالك ليس من الضعيف ؛ لأنّه تُتُبِّعَ كلّه فوُجِدَ مسندا من غير طريقه ۲۸ ، فهذا يشبه محاولة إيصال البلاغات الّتي أجهد ابن عبد البرّ به نفسه ، وقد أجبنا عنه ، مع أنّ وجدان الطرق المسندة من غير طريق مالك ، لا تنفع في الحكم على طريقه ، فهب أنّ طرقا أُخرى مسندة صحيحة ، لكنّ مالكا كيف يتّكل على البلاغات أنفسها الّتي لم تصله إلّا بالطرق الضعيفة ؟ !
وقد أوغل أخيرا الأُستاذ محمّد فؤاد عبد الباقي في التعصّب لمالك وبلاغاته فيما علّقه على قول مالك : « وقد بلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أراد العكوف . . . » ، فقال : هو الحديث الّذي أسنده أوّلاً صحيحا . فمن هنا ونحوه يُعلَم أنّه لا يطلق « البلاغ » إلّا على الصحيح ، ولذا قال الأئمّة : « بلاغات مالك صحيحة » ۲۹ .
أقول :
أمّا هذا البلاغ فهو مرسَل مقطوع ، قطعا ؛ لأنّ بين مالك وبين رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلموسائط ليست مذكورة في سند هذا البلاغ ، فهو ليس مسندا هنا ، حتّى لو قيل بكون البلاغات المعنعنة متّصلة .
وأمّا الحديث الأوّل المسنَد فهو ليس بلاغا ، وتطابُق البلاغ هنا مع المسند الأوّل في المعنى والمتن ، لا يدلّ بوجهٍ على اتّصال سند البلاغ الّذي جاء بلا طريق مسند إلى المتن ، مع أنّك قد عرفت أنّ صحّة المتن من طرق أُخرى لا تعني صحّة البلاغ المرسَل أو المنقطع أو المعضل ، ولا يصحّ تسميته « صحيحا » لذاته ، وقد عرفت أنّ وجود هذه البلاغات المرسَلة في الموطّأ هو الّذي سبّب الإعراض عن عدّ الموطّأ من الصحاح .
وأمّا ما نسبه إلى الأئمّة ، فقد عرفت أنّ منهم مَن حكم بإرسال بلاغات مالك ، أو انقطاعها ، بل إعضالها ، ومنهم الشافعيّ إمام المذهب ، وابن حزم ، فالنسبة المذكورة بلا ريب باطلة .
ومن الطريف أنّ ابن الصلاح قال في نهاية بحثه عن الحديث الضعيف ما نصّه : إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسنادٍ فلا تقل فيه : « قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . . . » ، وإنّما تقول فيه : « رُوي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . . . » ، أو : « بلغنا عنه . . . » ، أو : « ورد عنه » ، أو : « جاء عنه . . . » ۳۰ .
فليكن عمل مالك على هذا في بلاغاته . كما قد قيل : إنّه أخذها من ابن إدريس ۳۱ الّذي لم يجر له ذِكر في أسانيد بلاغاته إطلاقا !

1.المحاسن للبرقي : ج ۱ ص ۲۹۶ .

2.المؤمن للأهوازي : ص ۴۷ .

3.المحاسن : ج ۱ ص ۶۰ .

4.المحاسن : ج ۱ ص ۶۰ .

5.راجع بحث « أسند عنه » المنشور في مجلّة تراثنا العدد الثالث ، السنة الأُولى .

6.المحاسن : ج ۲ ص ۶۲۲ .

7.المصدر السابق : ص ۴۶۵ .

8.الجوهر النقي : ج ۸ ص ۳۱ .

9.السنن الكبرى : ج۱ ص ۳۶۲ .

10.المصدر السابق : ص ۲۶۶ ؛ والجوهر النقي : ج ۱ ص ۲۶۶ .

11.لاحظ مقدّمة ينابيع المودّة للقندوزي ، طبع النجف ـ الحيدرية ، بقلم السيّد الخرسان .

12.الباعث الحثيث : ص ۳۱ ـ ۳۲ ؛ علوم الحديث لصبحي الصالح : ص ۳۰۴ .

13.لاحظ : فتح العزيز : ج ۹ ص ۵۰ ۱ـ ۱۵۱ ؛ والنووي في المجموع : ج ۱۳ ص ۵۲ .

14.علوم الحديث : ص۴ .

15.معجم ما استعجم : ج ۴ ص ۱۱۹۰ .

16.علوم الحديث لابن الصلاح : ص ۶۰ ـ ۶۱ .

17.علوم الحديث لصبحي الصالح : ص ۱۷۲ ـ ۱۷۳ ، ولاحظ : منهج النقد : ص ۲۵۱ .

18.المحلّى : ج ۳ ص ۸۸ .

19.المصدر السابق : ج۸ ص ۴۴۴ .

20.السنن الكبرى : ج ۴ ص ۲۲۲ ؛ والجوهر النقي : ج ۴ ص ۲۲۳ .

21.فهرس الفهارس : ص ۱۱۲۱ .

22.لسان الميزان : ج ۵ ص ۱۲۷ رقم ۴۲۸ .

23.الموطّأ المقدّمة : ۱ / دال ، وممّا لم يوجد لها أصل ما ذكره ابن حجر في لسان الميزان : ج ۳ ص ۳۱ رقم ۱۰۶ ترجمة سعيد المهري و ج ۴ ص ۳۳۶ رقم ۹۵۳ ترجمة عمر بن نعيم .

24.منهج النقد : ص ۲۵۱ ؛ ولاحظ : الموطّأ : ۱ / هاء ؛ وانظر : فهرس الفهارس : ص ۵۲۳ ، وقد بالغ فيه حيث قال : « وتوهّم بعض العلماء أنّ قول الحافظ أبي عمر بن عبد البرّ يدلّ على عدم صحّتها ، وليس كذلك ! إذ الانفراد لا يقتضي عدم الصحّة ، لا سيّما من مثل مالك » ؟ !

25.فتح الملك العلي المطبوع مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام إمام العارفين : ص ۱۱۹ رقم ۳۲ .

26.لاحظ : علوم الحديث لابن الصلاح : ص ۵۵ .

27.قواعد في علوم الحديث للتهانوي : ص ۱۶۳ .

28.المصدر السابق : ۱۶۴ .

29.الموطّأ : ج ۱ ص ۳۱۷ .

30.علوم الحديث : ص ۱۰۳ ـ ۱۰۴ .

31.تهذيب التهذيب : ج۵ ص ۱۴۵ .


العنعنة
50
  • نام منبع :
    العنعنة
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 93521
الصفحه من 173
طباعه  ارسل الي