الفصل الأوّل : الحياة السياسية والفكرية في عصر الكليني
عاش ثقة الإسلام الكليني رحمه اللّه تعالى في حقبة حاسمة من تاريخ العصر العبّاسي الثاني (232 ـ 334 ه ) امتدّت من أوائل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وحتى نهاية الربع الأوّل من القرن الرابع الهجري وزاد عليها بقليل؛ وذلك في مكانين مختلفين، أوّلهما: موطنه الأساس (الريّ)، وثانيهما: عاصمة الدولة العبّاسية (بغداد)، حيث أقام بها زهاء عشرين سنة كما سيأتي في محلّه من هذا البحث، الأمر الذي يعني ضرورة تسليط الضوء على أهمّ الجوانب السياسية والفكرية في هاتين الحاضرتين دون غيرهما من الحواضر العلمية الاُخرى المنتشرة في ذلك الزمان في كثير من الأمصار الإسلامية، والتي وصل الكليني إلى بعضها، ونقل الحديث عن جملة من مشايخها.
والذي يبرّر لنا هذا الحصر سببان، وهما:
الأوّل: قرب الحواضر العلمية التي زارها الكليني رحمه الله، إمّا من الريّ كمدينة قم، وغيرها، أو من بغداد كالكوفة ونحوها. وهذا يعني إمكان تعميم الحالة السياسية والثقافية السائدة في موطنه (الري) على ما جاورها من المدن، وكذلك الحال بالنسبة الى الاكتفاء بعرض الاُمور السياسية والفكرية ببغداد، دون غيرها.
ويؤيّد ذلك أنّ مجرى الاُمور السياسية والفكرية في شتّى الأمصار الإسلامية من انحطاط تارة أو نشاط تارة اُخرى، يكاد أن يكون انعكاسا طبيعيا لما يجري من ذلك في عاصمة الدولة العبّاسية (بغداد).
الثاني: عدم وجود ما يدلّ على مُدَّة مكوث الكليني في المدن والحواضر العلمية التي انطلق إليها في رحلته الاُولى من الريّ، أو الثانية من بغداد، ومع عدم وجود المعرفة الكافية بذلك، يبقى تأثّره بالمعطيات السياسية والفكرية والثقافية السائدة في تلك المدن ـ على فرض عدم صحّة التعميم السابق ـ مجرّد احتمال ضعيف لا يمكن اعتماده، وبناء هيكل البحث عليه.
وإذا ما علمنا أنّ ثقة الإسلام الكليني طاب ثراه قد عاش ثلثي عمره تقريبا في الريّ، والثلث الأخير في بغداد، وعلمنا أيضا موقع الريّ الريادي في المشرق الإسلامي يومذاك، وموقع بغداد بالذات، وثقلها السياسي والفكري كعاصمة للدولة: اتّضح أنّ الحديث عنهما بأيّ صعيد كان، هو الحديث عن غيرهما بذلك الصعيد نفسه، ووجود بعض الفوارق الطفيفة التي لم يتأثّر بها ثقة الإسلام، ولم تنعكس على ثقافته ـ بحكم ابتعاده عن بيئتها ـ كالذي حصل في الأندلس، والمغرب العربي، ومصر، واليمن، وما وراء النهر؛ لا يبرّر تناولها في عصره السياسي والفكري، وكذلك الحال بالنسبة إلى المدن والحواضر العلمية التي زارها ومرّ بها، وهي من توابع الري، أو قريبة من بغداد؛ للسبب المذكور نفسه، سيّما بعد حصر منابع ثقافته وتطلّعاته في موطنه ومكان إقامته، وانطلاق شهرته إلى العالم الإسلامي منهما لا غير.
ففي الريّ تلقّى الكليني علومه الاُولى، وثقافته، حتى صار شيخ الشيعة بالريّ ووجههم.
وفي بغداد انتهت إليه رئاستهم في عهد المقتدر باللّه العبّاسي (295 ـ 320 ه )، وأصبح فيها القطب الذي تدور على محوره رحى أحاديثهم.
وبهذا يتبيّن الوجه في حصر المؤثّرات الخارجية ـ سياسية وفكرية ـ على ثقافة الكليني قدس سرهفي هاتين البيئتين فحسب.
وبما أنّ الحياة السياسية والفكرية لأيّ عصر مرتبطة بماضيها، فسيكون طرح مرتكزاتها من الحسابات الفكرية، وإهمال جذورها التاريخيّة وخيما على نتائج دراستها، ما لم يتمّ الكشف فيها عن نوع ذلك الارتباط، وهو ما لوحظ باختصار في دراسة عصر الكليني سياسيا وفكريا في مبحثين: