189
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
188

27 ـ القاسم بن العلاء الهَمَداني:

من أهل آذربيجان، ولد رحمه الله (سنة / 187 ه ) وتوفّي (سنة / 304 ه ) عن (117) سنة، وفقد بصره رضى الله عنه بعد الثمانين ، ثمّ رُدَّت له عيناه قبل وفاته بسبعة أيّام كما سيوافيك، وهو من مشايخ الكليني الثقات الأجلّاء، روى عنه في الكافي في موردين وكنّاه بأبي محمّد مع الترحّم عليه في أوّلهما ۱ .
وأخرج له الصدوق من رواية ثقة الإسلام عنه جملة من الأحاديث ۲ .
قال الشيخ في رجاله: «القاسم بن العلاء الهَمَدَاني، وكان جليل القدر، روى عنه الصفواني» ۳ .
وعدّه الشيخ الصدوق والعلّامة الطبرسي ممّن شاهد مولانا الإمام الحجّة عليه السلام من الوكلاء من أهل آذربيجان ۴ .
ويؤيّده كذلك ما ورد في الكشّي بخصوص انحراف أحمد بن هلال العبرتائي بعد استقامته لعنه اللّه ، وكيف اتّفقت كلمة رواة أصحابنا الذين لقوه ورووا عنه الحديث على مفاتحة القاسم بن العلاء بهذا الأمر بغية التأكّد من صحّة الذموم الواردة بحقّه من الإمام الحجة عليه السلام ، وطلبوا منه المراجعة في أمره، وكيف وصلته من الإمام الحجّة عليه السلام بعد ذلك نسخة بلعن ابن هلال لعنه اللّه ۵ . وفي هذا ما يؤكّد وكالته، وجلالته، وقبول رواة الشيعة كلامه.
وهناك خبر طويل صحيح بأعلى درجات الصحّة، ذكره الشيخ الطوسي قدس سره في كتاب الغيبة، ولابدّ من ذكره بتمامه لما فيه من فوائد جمّة في معرفة حال القاسم بن العلاء رضى الله عنه.
قال الشيخ الطوسي: «أخبرني محمّد بن محمّد بن النعمان والحسين بن عبيداللّه ، عن محمّد بن أحمد بن الصفواني رحمه الله ۶ ، قال: رأيت القاسم بن العلاء وقد عمّر مائة سنة وسبع عشرة سنة منها ثمانون سنة صحيح العينين، لقي مولانا أبا الحسن وأبا محمّد العسكري عليهماالسلام.
وحُجب بعد الثمانين، وردّت عليه عيناه قبل وفاته بسبعة أيّام ۷ .
وذلك أنّي كنت مقيما عنده بمدينة الران من أرض آذربيجان، وكانت لا تنقطع عنه توقيعات مولانا صاحب الزمان عليه السلام على يد أبي جعفر محمّد بن عثمان العمريّ، وبعده على يد أبي القاسم الحسين بن روح قدّس اللّه روحهما، فانقطعت عنه المكاتبة نحوا من شهرين، فقلق رحمه الله لذلك. فبينا نحن عنده نأكل؛ إذ دخل البوّاب مستبشرا، فقال له: فيج العراق لا يسمّى بغيره، فاستبشر القاسم وحوّل وجهه إلى القبلة فسجد، ودخل كهل قصير يرى أثر الفيوج عليه، وعليه جبّة مصريّة، وفي رجله نعل محامليّ، وعلى كتفه مخلاة.
فقام القاسم فعانقه، ووضع المخلاة عن عنقه، ودعا بطشت وماء فغسّل يده وأجلسه إلى جانبه، فأكلنا وغسّلنا أيدينا، فقام الرّجل فأخرج كتابا أفضل من النصف المدرج، فناوله القاسم، فأخذه وقبّله ودفعه إلى كاتب له يقال له ابن أبي سلمة، فأخذه أبو عبداللّه ففضّه وقرأه حتّى أحسّ القاسم بنكاية.
فقال: يا أبا عبداللّه ! خير؟ فقال: خير، فقال: ويحك خرج فيَّ شيء؟ فقال أبو عبداللّه : ما تكره فلا، قال القاسم: فما هو؟ قال: نُعِيَ الشيخ إلى نفسه بعد ورود هذا الكتاب بأربعين يوما، وقد حمل إليه سبعة أثواب، فقال القاسم: في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك، فضحك رحمه الله فقال: ما أُؤمّل بعد هذا العمر؟
فقام الرّجل الوارد: فأخرج من مخلاته ثلاثة أُزر وحبرة يمانيّة حمراء وعمامة وثوبين ومنديلاً فأخذها القاسم، وكان عنده قميص خلعه عليه مولانا الرضا أبو الحسن عليه السلام ، وكان له صديق يقال له عبدالرحمن بن محمّد البدري، وكان شديد النصب، وكان بينه وبين القاسم نضّر اللّه وجهه مودّة في أُمور الدنيا شديدة، وكان القاسم يودُّه، وقد كان عبدالرحمن وافى إلى الدار لإصلاح بين أبي جعفر بن حمدون الهَمَدانيّ وبين ختنه ابن القاسم ۸ .
فقال القاسم لشيخين من مشايخنا المقيمين معه، أحدهما يقال له أبو حامد عمران ابن المفلس، والآخر أبو عليّ بن جحدر: أن أقرءا هذا الكتاب عبدالرحمن بن محمّد، فإنّي أُحبّ هدايته وأرجو أن يهديه اللّه بقراءة هذا الكتاب، فقالا له: اللّه اللّه اللّه ، فإنّ هذا الكتاب لا يحتمل ما فيه خلق من الشيعة فكيف عبدالرحمن بن محمّد؟!
فقال: أنا أعلم أنّي مفشٍ لسرّ لا يجوز لي إعلانه، لكن من محبّتي لعبد الرحمن بن محمّد وشهوتي أن يهديه اللّه عزّ وجلّ لهذا الأمر هو ذا، إقرأه الكتاب.
فلمّا مرّ ذلك اليوم ـ وكان يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من رجب ـ دخل عبدالرحمن بن محمّد وسلّم عليه، فأخرج القاسم الكتاب فقال له: إقرأ هذا الكتاب وانظر لنفسك، فقرأ عبدالرحمن الكتاب، فلمّا بلغ إلى موضع النعي رمى الكتاب عن يده وقال للقاسم: يا أبا محمّد ، اتّق اللّه فإنّك رجل فاضل في دينك، متمكّن من عقلك، واللّه عزّ وجلّ يقول: «وَ مَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَ مَا تَدْرِى نَفْس بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»۹
. وقال: «عَــلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا»۱۰ .
فضحك القاسم وقال له: أتمّ الآية: «إِلَا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ»۱۱ . ومولاي عليه السلام هو الرضا من الرسول، وقال: قد علمت أنّك تقول هذا ولكن أرّخ اليوم، فإن أنا عشت بعد هذا اليوم المؤرَّخ في هذا الكتاب فاعلم أنّي لست على شيء، وإن أنا متّ فانظر لنفسك، فورّخ عبدالرحمن اليوم وافترقوا.
وحُمَّ القاسم يوم السابع من ورود الكتاب، واشتدّت به في ذلك اليوم العلّة، واستند في فراشه إلى الحائط، وكان ابنه الحسن بن القاسم مدمنا على شرب الخمر، وكان متزوّجا إلى أبي عبداللّه بن حمدون الهمدانيّ، وكان جالسا ورداؤه مستور على وجهه في ناحية من الدار، وأبو حامد في ناحية، وأبو عليّ بن جحدر وأنا وجماعة من أهل البلد نبكي، إذ اتّكأ القاسم على يديه إلى خلف وجعل يقول: يا محمّد يا عليّ يا حسن يا حسين ، يا مواليّ كونوا شفعائي إلى اللّه عزّ وجلّ، وقالها الثانية، وقالها الثالثة.
فلمّا بلغ في الثالثة: يا موسى يا عليّ تفرقعت أجفان عينيه كما يفرقع الصبيان شقائق النعمان، وانتفخت حدقته، وجعل يمسح بكمّه عينيه، وخرج من عينيه شبيه بماء اللّحم، ومدّ طرفه إلى ابنه، فقال: يا حسن إليّ، يا أبا حامد إليَّ، يا أبا عليّ إليّ، فاجتمعنا حوله ونظرنا إلى الحدقتين صحيحتين، فقال له أبو حامد: تراني؟ وجعل يده على كلّ واحد منّا، وشاع الخبر في الناس والعامّة، وأتاه الناس من العوامّ ينظرون إليه.
وركب القاضي إليه وهو أبو السائب عتبة بن عبيداللّه المسعوديّ وهو قاضي القضاة ببغداد ۱۲ ، فدخل عليه فقال له: يا أبا محمّد ، ما هذا الّذي بيدي؟ وأراه خاتما فضّة فيروزج، فقرّبه منه فقال: عليه ثلاثة أسطر فتناوله القاسم رحمه الله فلم يمكنه قراءته وخرج النّاس متعجّبين يتحدّثون بخبره، والتفت القاسم إلى ابنه الحسن فقال له: إنّ اللّه منزّلك منزلة ومرتّبك مرتبة ، فاقبلها بشكر، فقال له الحسن: يا أبه قد قبلتها، قال القاسم: على ماذا؟ قال: على ما تأمرني به يا أبه، قال: على أن ترجع عمّا أنت عليه من شرب الخمر، قال الحسن: يا أبه وحقّ من أنت في ذكره لأرجعنّ عن شرب الخمر، ومع الخمر أشياء لا تعرفها، فرفع القاسم يده إلى السماء وقال: اللّهم أَلْهِم الحسن طاعتك، وجنّبه معصيتك ثلاث مرّات، ثمّ دعا بدرج فكتب وصيّته بيده رحمه اللهوكانت الضياع الّتي في يده لمولانا وقف وقفه أبوه.
وكان فيما أوصى الحسن أن قال: يا بنيّ ، إن أُهّلتَ لهذا الأمر ـ يعني الوكالة لمولانا ـ فيكون قوتك من نصف ضيعتي المعروفة بفرجيذه، وسائرها ملك لمولاي، وإن لم تُؤهَّل له فاطلب خيرك من حيث يتقبّل اللّه ، وقبل الحسن وصيّته على ذلك.
فلمّا كان في يوم الأربعين وقد طلع الفجر مات القاسم رحمه الله، فوافاه عبدالرحمن يعدو في الأسواق حافيا وهو يصيح، واسيّداه! فاستعظم النّاس ذلك منه وجعل النّاس يقولون: ما الّذي تفعل بنفسك؟ فقال: اسكتوا فقد رأيت ما لم تروه، وتشيّع ورجع عمّا كان عليه، ووقف الكثير من ضياعه. وتولّى أبو عليّ بن جحدر غسل القاسم وأبو حامد يصبّ عليه الماء، وكفّن في ثمانية أثواب على بدنه قميص مولاه أبي الحسن وما يليه السبعة الأثواب الّتي جاءته من العراق. فلمّا كان بعد مدّة يسيرة ورد كتاب تعزية على الحسن من مولانا عليه السلام في آخره دعاء: «ألهمك اللّه طاعته، وجنّبك معصيته» وهو الدّعاء الّذي كان دعا به أبوه، وكان آخره: «قد جعلنا أباك إماما لك، وفعاله لك مثالاً» ۱۳ .
وقد كان موت القاسم بن العلاء رضى الله عنه في (سنة/304 ه ) على ما ذكره الشيخ الطهراني ۱۴ .

1.. اُصول الكافي : ج ۱ ص ۱۹۸ ح ۱ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته من كتاب الحجّة، و ج ۱ ص ۵۱۹ ح ۹ باب مولد الصاحب عليه السلام من كتاب الحّجة .

2.. كما في: إكمال الدين : ص ۳۶ من المقدّمة، وص ۳۲۳ ح ۸ باب ۳۱، وص ۳۲۷ ح ۷ باب ۳۲، وص ۳۳۰ ح ۱۶ من الباب السابق، وعلل الشرائع : ص ۱۶۰ ح ۱ باب ۱۲۹.

3.. رجال الشيخ الطوسي : ص ۴۳۶ الرقم ۶۲۴۳ باب من لم يرو عنهم عليهم السلام .

4.. إكمال الدين : ج ۲ ص ۴۴۲ ذيل ح ۱۶ باب ۴۳، إعلام الورى : ج ۲ ص ۲۷۳ .

5.. رجال الكشّي : ص ۵۳۵ ـ ۵۳۷ الرقم ۱۰۲۰ .

6.. محمّد بن محمّد بن النعمان هو الشيخ المفيد، وهو أجلّ قدرا وأعظم من أن يقال بحقّه: ثقة، والحسين بن عبيداللّه هو الغضائري المشهور جليل عظيم المنزلة ثقة عين، والصفواني من تلاميذ الكليني وثقاتهم المشهورين وستأتي ترجمته في تلاميذ الكليني رحمه الله.

7.. المقصود: هو تماثل عينيه ـ رحمه اللّه ـ للشفاء تماما، ولا يمنع هذا من ابتداء تماثله قبل تلك الفترة المحدودة كما سيأتي في لسان الرواية، فلاحظ.

8.. ابن القاسم بن العلاء اسمه (الحسن) وكان متزوّجا من بنت أبي جعفر بن حمدون الهمداني .

9.. سورة لقمان : ۳۴.

10.. سورة الجنّ : ۲۶ .

11.. سورة الجنّ : ۲۷.

12.. ترجم له الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء : ج ۱۶ ص ۴۷ الرقم ۳۲، مصرّحا بأنّه تقلّد القضاء أوّلاً في مراغة، ثمّ بَعُدَ صيته فَقُلِّدَ قضاء ممالك آذربيجان، ثمّ ولي بعد ذلك قضاء هَمَذَان، ثمّ قدم بغداد فولي قضاء العراق (سنة / ۳۳۸ ه )، ومنه يُعلم أنّ عبارة (وهو قاضي القضاة ببغداد) أي: في زمان حكاية الخبر، لا في زمان حدوثه، فلاحظ .

13.. كتاب الغيبة للطوسي : ص ۳۱۰ ـ ۳۱۵ ح ۲۶۳ .

14.. طبقات أعلام الشيعة ـ القرن الرابع : ص ۲۱۹.

  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 305028
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي