273
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

الفصل الخامس : أسفار الشيخ الكليني ومؤلّفاته

المبحث الأوّل: رحلته العلمية في طلب الحديث

كتبت هذا الفصل واخترت ـ بقصد ـ موقعه بين فصلي مشايخ الكليني وتلامذته على الرغم ممّا بين الفصلين من ارتباط وثيق، وذلك لسببين.أحدهما: إنّ الرحلة في طلب الحديث عادة ما تكون في بدايات عمر المحدِّث لحاجته إلى لقاء المشايخ والتلمّذ على أيديهم والسماع منهم، ومعنى هذا ارتباط أسفار الكليني ورحلاته العلمية بمشايخه أكثر من ارتباطها بتلامذته.والآخر: إنّ مدّة تأليف الكافي عشرون سنة بلا خلاف، وفي آخر ديباجة الكافي ما يدلّ على أنّه آخر كتبه تأليفا لتصريحه بأنّه ـ إذا ما أسعفه الأجل ـ سيُفرِد لبحث الحجّة كتابا مستقلّاً يوفيه حظوظه كلّها. ولمّا لم يكن للكليني مثل هذا الكتاب، عُلم أنّ جميع مؤلّفاته الاُخرى قد ألّفها قبل الكافي، أي: قبل (سنة / 300 ه ).ومن مراجعة طبقة تلامذته وتاريخ وفياتهم يُعلم أنّ أكثرهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ قد تتلمذوا على يديه بعد (سنة / 300 ه )، وبعبارة اُخرى.. أنّه قُصِدَ بعد شهرة مصنّفاته التي كتبها بالريّ قبل الكافي، ومعنى هذا أنّ مصنّفاته أسبق زمانا من تاريخ بدء تلمذة الرواة على يديه. وإذا اتّضح هذا نقول: بذل الشيخ الكليني رحمه اللهجهدا مميّزا في تأليف كتاب الكافي وتصنيفه بعد عملية جمع وغربلة واسعة لما روي عن أهل البيت عليهم السلام في اُصول الشريعة وأحكامها وآدابها، كما يشهد بذلك تلوّن الثقافة الإسلامية الواسعة المحتشدة في كتاب الكافي (اُصولاً، وفروعا، وروضة)، ومن الواضح أنّه ليس بوسع (كُلَيْن) تلك القرية الصغيرة تلبية حاجة الكليني لتلك المهمّة الخطيرة التي نهض بأعبائها وتحمّل مشاقّها طيلة عشرين عاما، ومن هنا تابع رحلته وعزم على سفر طويل لطلب العلم، ومبادلة العلماء السماع والأخذ عنهم، خصوصا وأنّ الرحلة في ذلك الوقت ـ كما يقول ابن خلدون (ت / 808 ه ) ـ «لابدّ منها في طلب العلم؛ لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال» ۱ ؛ لأنّها أصبحت من آداب طالب الحديث التي لا تنفكّ عنه، ومن هنا لم يكتف أحد من علماء الحديث وأقطابه في حدود مدينته، ولم تخل حياتهم من الرحلة العلمية في عرض البلاد وطولها.وقد كان حظّ الكليني من تلك الرحلة حظّا واسعا، إذ طاف في الكثير من حواضر العلم والدين في بلاد الإسلام، وسمع الحديث من شيوخ البلدان التي رحل إليها، كما يعلم هذا من تتبَّع حياة ثقة الإسلام وإن لم يصرّح هو بذلك، بخلاف ما اعتاده بعض المحدّثين. كالشيخ الصدوق (ت / 381 ه ) مثلاً الذي اعتاد أن يذكر ـ بين آونة واُخرى ـ ما يدلّ على أسفاره ورحلته العلمية، وذلك من خلال تصريحه ـ في كثير من كتبه ـ بسماع هذا الحديث أو ذاك، من شيخه فلان في منطقة كذا وبتاريخ كذا، وقد يذكر أحيانا مكان السماع دون الإكتفاء بالمدينة، كأن يكون في المسجد، أو في البيت، أو في طريق الحجّ وهكذا، مع ذكر الشهر زيادة على سنة السماع. وهو بهذا سهّل على الباحثين معرفة تسلسل رحلاته العلمية بدقّة، الأمر الذي لم نجد له ذكرا في جميع أحاديث الكافي بلا استثناء. وإذا كانت تلك الميزة تسجّل باعتزاز لشيخنا الصدوق رضى الله عنه، فلا يعني هذا عدم وجود رحلة علمية واسعة لثقة الإسلام، وإن لم يصرّح بذلك؛ إذ يمكن التعرّف عليها من خلال البحث والتنقيب، ولعلّ في تتبّع مشايخه ما يشير إلى سعة رحلته في طلب العلم، وهذا وإن لم يكن دليلاً حاسما على وصول الكليني قدس سره إلى مدن مشايخه للسماع منهم؛ لاحتمال اللقاء بهم في غيرها، إلّا أنّه لا يلغي احتمال وصول الكليني إلى بلدانهم، خصوصا مع توفّر الدليل على وصوله إلى أكثر من حاضرة علمية في ذلك الزمان.فبعد أن استوعب ما عند مشايخ كُلَيْن من أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، كعليّ بن محمّد الكليني، ومحمّد بن عقيل الكليني وغيرهما، اتّجه إلى الريّ لقُربها من كُلَيْن، فاتّصل بمشايخها الرازيّين، وحدّث عنهم، كالحسين بن الحسن العلوي الرازي، ومحمّد بن جعفر ابن محمّد بن عون الأسدي الكوفي ، ساكن الريّ ، ومحمّد بن الحسن الطائي الرازي، وأمثالهم.ولا يبعد أن تكون الريّ ـ التي اشتهر فيها وسطع نجمُه ـ منطلقَه إلى المراكز العلمية المعروفة في بلاد العجم ـ قبل الهجرة إلى العراق ـ ومن ثَمَّ العودة إلى الريّ؛ إذ التقى بمشايخ من مدن شتّى وحدّث عنهم.فمن مشايخ قم الذين حدّث عنهم، وورد ذكرهم في أسانيد الكافي، هم: أحمد بن إدريس ، وسعد بن عبداللّه بن أبي خَلَف الأشعري، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم، وعلي بن محمّد بن عبداللّه ، ومحمّد بن الحسن الصفّار، ومحمّد بن يحيى العطّار، وغيرهم ممّن تقدّم في مشايخه.ومن سمرقند: محمّد بن علي الجعفري، وأبو الحسين السمرقندي.ومن نيسابور: محمّد بن إسماعيل أبو الحسن النيسابوري، ومحمّد بن أحمد الخفّاف النيسابوري.ومن همدان: محمّد بن علي بن إبراهيم بن محمّد الهمداني.ومن قزوين: محمّد بن محمود بن أبي عبداللّه القزويني. ومن آذربيجان: القاسم بن العلاء الآذربيجاني.والقاسم هذا أحد وكلاء الإمام الحجّة عليه السلام من أهل آذربيجان، وكان رضى الله عنه قد عاش مائة وسبع عشرة سنة، ومات رحمه اللهبآذربيجان (سنة/304ه )، وعلى هذا تكون ولادته في (سنة / 187 ه )، ومرّ في فصل مشايخه ـ في ترجمته ـ أنّه عاش رحمه اللهثمانين سنة صحيح العينين، ثمّ فقد بصره بعد الثمانين، أي في (سنة / 267 ه )، ومن الواضح استقرار أمره في آذربيجان بعد هذا التاريخ، لوكالته في تلك البلاد من جهة، وكبر سِنّه من جهة اُخرى، وفقدان بصره من جهة ثالثة، الأمر الذي يؤكّد وصول ثقة الإسلام الكليني رحمه اللهقبل (سنة / 304 ه ) إلى تلك البلاد لسماع الحديث من أقطابها، خصوصا هذا الرجل الجليل المعدود من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام كما مرّ في ترجمته.هذا، وقد ذكر الكليني في باب مولد أبي الحسن الرضا عليه السلام ما يشير إلى وصوله إلى خراسان، قال: «ولد أبو الحسن الرضا عليه السلام ، سنة ثمان وأربعين ومائة ، ـ إلى أن قال : ـ وتوفّي عليه السلام بطوس في قرية يقال لها: سناباد من نوقان على دعوة» ۲ .ونوقان: إحدى مدينتي طوس، والاُخرى: طابران. وقوله: (على دعوة) إشارة لقرب سناباد من نوقان، أي أنّ البعد بينهما قدر مدّ صوت داعٍ يسمعه المدعوّ ۳ .وهذا الوصف والتقدير يدلّان على المشاهدة.ويبدو أنّ ثقة الإسلام ـ بعد أن طاف في المراكز العلمية في بلاد إيران ـ كان عازما على رحلة علمية واسعة، وهذا ما نجده واضحا في انتقاله، من الريّ إلى بغداد قبل (سنة/ 310 ه ) .حيث رحل إلى العراق ، واتّخذ من بغداد قاعدة للانطلاق إلى المراكز العلمية الاُخرى، سواء كانت في العراق أو الشام أو غيرها، ثمّ العودة إلى بغداد، وهكذا إلى أن وافاه أجله المحتوم فيها.
فقد حدّث الكليني بعد ارتحاله من بغداد إلى الكوفة عن كبار مشايخها، كأبي العبّاس الرزّاز الكوفي المولود (سنة / 236 ه ) والمتوفّى (سنة / 310 ه )، وحميد بن زياد الكوفي الواقفي، الذي سكن سوراء ثمّ انتقل إلى نينوى قرية قرب الحائر الحسيني (كربلاء حاليّا) وبقي فيها إلى أن مات (سنة / 310 ه ) في تلك القرية، ولم تُعرف لحميد بن زياد رحلة علمية إلى الريّ أو قم حتى يُحتمل لقاء الكليني به في إحدى الحاضرتين مثلاً، الأمر الذي يشير إلى أنّ الكليني رحمه اللّه تعالى قد غادر بلده الريّ بعد أن استنفد ما في المراكز العلمية الشرقية من أحاديث أهل البيت عليهم السلام قبل (سنة / 310 ه ) مبتدءا بهذا من مشايخ قرية كُلين ثمّ الريّ ثمّ قم وغيرها، ثمّ التوجّه إلى العراق قبل هذا التاريخ، ويدل عليه زيادة على ما تقدّم أنّ مشايخه في شرق البلاد الإسلامية قد ماتوا رحمهم اللّه قبل (سنة / 310 ه )، ابتداءً من الصفّار القمّي (ت / 290 ه )، وسعد بن عبداللّه (ت / 299 ـ أو سنة / 301 ه )، والقاسم بن العلاء الآذربيجاني (ت / 304 ه )، وأحمد بن إدريس الأشعري القمّي (ت / 306 ه )، وعلي بن إبراهيم بن هاشم القمّي (ت بحدود سنة / 308 ه )، وأمّا عن شيخه محمّد بن أبي عبداللّه الأسدي الذي سكن الريّ ومات بها (سنة / 312 ه ) فالمطمأن به أنّه حدث عنه قبل وفاته بسنين كثيرة ربّما قبل (سنة / 290 ه )؛ إذ من البعيد أن يحدّث عن علماء قم في تلك السنة ، ثم يهمل التحديث عن مشايخ بلده في ذلك الحين ليعود إليهم بعد هذا ويحدّث عنهم قبل وفاتهم بقليل.ومن هنا يتبيّن بوضوح أنّ دخول الكليني رحمه الله إلى بغداد لم يكن في السنوات الأخيرة من حياته كما زعمه بعض الكتّاب المعاصرين، اشتباها منه بإجازة الكليني رواية مصنّفاته لتلميذه الشيخ أبي الحسين عبدالكريم بن عبداللّه بن نصر البزّاز ببغداد (سنة / 327 ه ) على ما جاء في مشيخة التهذيب ۴ والاستبصار ۵ .وأيّ علاقة بين تاريخ منح الإجازة العلمية ببغداد لشخص في الرواية، وبين معرفة زمان دخول المانح إلى بغداد نفسها؟!ولو صحّ مثل هذا لجاز لنا الردّ على من أرّخ وفاة الكليني رحمه الله (بسنة / 328 ه ) على أساس أنّه حدّث عن شيخه محمّد بن علي بن معمر الكوفي الذي كان حيّا (سنة / 329 ه )، إذ سمع منه التلعكبري في تلك السنة وكانت له منه إجازة.وكذلك الردّ على من أرّخ وفاة ثقة الإسلام (بسنة / 329 ه )؛ لأنّ الكليني قدس سرهحدّث عنه شيخه ابن عقدة الحافظ المتوفّى (سنة / 333 ه ) أو (سنة / 332 ه ) على قول آخر، وهو كما ترى!بل كيف نفسّر لقاء الكليني بمشايخ الكوفة، وسوراء، وبغداد الذين حدّث عنهم وفيهم من مات قبل (سنة / 327 ه ) بنحو سبعة عشر عاما كالرزّاز الكوفي، وحميد بن زياد مع القول بدخوله العراق قبل سنتين من وفاته رحمه الله؟!بل كيف يجتمع لثقة الإسلام السفر إلى مكّة المكرّمة، والشام دون المرور بالعراق ـ إن لم تكن بغداد منطلقه إليها ـ بسنة واحدة هي (سنة / 327 ه )، هذا مع انعدام واسطة السفر السريع في عصره، وكون تقلّبه في تلك الأمصار لغاية علمية، الأمر الذي يتطلّب المكوث في كلّ مركز زمانا كافيا لإنجاح مهمّته؟نعم، فقد رحل الكليني رحمه الله بعد أن وقف على منابع الحديث ومشايخه في العراق إلى الشام، وحدّث ببعلبك كما صرّح بهذا ابن عساكر الدمشقي في ترجمة ثقة الإسلام في تاريخ دمشق ۶ .
كما ذكر الكليني نفسه ما يدلّ بوضوح على وصوله إلى الحجاز بوقت مبكّر جدّا من عمر العشرين سنة التي استغرقها كتاب الكافي، وربّما يكون ذلك قبل تأليفه. فقد قال رحمه اللهفي باب مولد النبي صلى الله عليه و آله ما نصّه: «ولد النبي صلى الله عليه و آله لإثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل في عام الفيل يوم الجمعة مع الزوال ـ إلى أن قال ـ : وحملت به اُمّه في أيّام التشريق عند الجمرة الوسطى وكانت في منزل عبداللّه بن عبدالمطّلب، وولدته في شِعْب أبي طالب في دار محمّد بن يوسف، في الزاوية القُصوى عن يسارِك وأنت داخل الدار» ۷ .ومن البعيد جدّا أن يكون هذا الوصف من غير مُشاهدة، بل هو ظاهر فيها، وورود هذا الوصف في الجزء الأوّل من اُصول الكافي له دلالات تاريخية لا تخفى على فطن.واحتمال أن يكون الكليني قد سافر إلى الحجاز والشام قبل دخوله إلى العراق ليس بشيء؛ لأنّ قوافل الحاجّ إلى مكّة المكرّمة من إيران كانت تمرّ ـ في ذلك الوقت ـ إمّا على طريق البصرة، أو على طريق الكوفة، كما أنّ الرحلة من إيران إلى دمشق لا يمكن أن تحصل ـ في عصر الكليني ـ دون المرور بأرض العراق.هذا.. ومن البعيد أن لا يكون ثقة الإسلام قد قصد الحجّ مرّة أو مرّات اُخرى خلال مدّة مكوثه في العراق قبل أن يقطع القرامطة على الحاجّ الطريق، حتى توقّف الحجّ بسببهم من (سنة / 322 ه ) إلى (سنة / 327 ه ) باتّفاق سائر المؤرّخين ۸ ، ومن كلّ هذا يتبيّن أنّ القول بدخول الكليني إلى العراق (سنة / 327 ه ) قول داحض على جميع الاحتمالات، ويعبّر عن جهل صاحبه بالكليني والكافي ورواياته.

1.. المقدّمة لابن خلدون : ص ۳۳۶ .

2.. اُصول الكافي : ج ۱ ص ۵۵۲ باب ۱۲۱ من كتاب الحجّة.

3.. مرآة العقول : ج ۶ ص ۷۲.

4.. مشيخة تهذيب الأحكام : ج ۱۰ ص ۲۹.

5.. الفهرست للطوسي : ص ۱۳۵ الرقم ۵۹۱.

6.. تاريخ دمشق : ج ۵۶ ص ۲۹۸ الرقم ۷۱۲۶.

7.. اُصول الكافي : ج ۱ ص ۴۳۹ باب ۱۱۱ من كتاب الحجّة، وهو الباب الأوّل من أبواب التواريخ.

8.. سيأتي بيان ذلك في مؤلّفات الكليني، عند الحديث عن كتابه (الردّ على القرامطة).


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
272
  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 308794
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي