69
حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني

أوّلاً ـ نظام ولاية العهد:

وهو نظام سياسي عقيم لا يتّصل بطرفي نظرية الحكم في الإسلام من كلّ وجه، وقد سبّب مشاكلَ كثيرةً للدولة وأضعفها كثيرا، وخلاصته: أن يعهد (الخليفة) بالخلافة لمن سيأتي بعده مع أخذ البيعة له من الاُمّة كرها في حياته، وهو بهذه الصورة يمثّل قمّة الاستبداد وإلغاء دور الاُمّة وغمط الحقوق السياسية لجميع أفرادها، سواء من آمن منهم بالنصّ أو الشورى.
وممّا زاد الطين بلّة في العصر العبّاسي الثاني إعطاء ولاية العهد لثلاثة، وهو ما فعله المتوكّل الذي قسّم الدولة على ثلاثة من أولاده، وهم: المنتصر، والمعتزّ، والمؤيّد ۱ ، مما فسح ـ بهذا ـ المجال أمام (ولاة العهد) للتنافس على السلطة ومحاولة كلّ واحد عزل الآخر من خلال جمع الأعوان والأنصار، بحيث أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى معارك طاحنة كما حصل بين الأمين والمأمون ولدي هارون. وهكذا أسهم نظام ولاية العهد بتبدّد الأموال وإزهاق الأرواح.
وهذا النظام وإن انتهى في بدايات العصر العبّاسي الثاني بعد قتل المتوكّل، إلّا أنّ البديل كان أشدّ عقما وأكثر سوءة؛ إذ صار أمر تعيين (الخليفة) منوطا بيد الأتراك لا بيد أهل الحلّ والعقد، مع التزامهم بعدم خروج السلطة عن سلالة العبّاسيين وإن لم يكن فيهم رجل رشيد.

ثانيا ـ عبث الخلفاء العبّاسيين ولهوهم وسوء سيرتهم:

ومن الأسباب التي أدّت إلى تفاقم الحياة السياسية في هذا العصر، انشغال الخلفاء العبّاسيين أنفسهم بعبثهم ولهوهم، إلى حدّ الاستهتار بارتكاب المحرّمات علنا بلا حريجة من دين أو واعز من ضمير، أو مداراة للمجتمع المسلم الذي حكموه باسم الإسلام !
وقد عُرِفَ عبثهم ومجونهم منذ عصرهم الأوّل، فالمنصور العبّاسي (136 ـ 158 ه ) مثلاً كان في معاقرته الخمر يحتجب عن ندمائه؛ صونا لمركزه، في حين أعلن ولده المهدي (158 ـ 169 ه ) ذلك، وأبى الاحتجاب عن الندماء بل شاركهم، وحينما أُشير عليه بالاحتجاب، رفض وقال: إنّما اللذّة مع مشاهدتهم ۲ .
وقد بلغ الأمر في العصر العبّاسي الأوّل أن ظهر من البيت الحاكم نفسه رجال ونساء عرفوا بالخلاعة والمجون والطرب والغناء، كإبراهيم بن المهدي المطرب العبّاسي الشهير، والمغنِّية الشهيرة عُلَيَّة بنت المهدي العبّاسي واُخت هارون اللارشيد، والتي كانت مشغوفة بخادمها رشأ حبّا، وكانت تكنيه (زينبا) بشعرها الخليع ۳ .
وفي هذا يقول أبو فراس الحمداني:
منكم (عُليَّةُ) أم منهم؟ وكان لكمشيخ المغنّين (إبراهيم) أم لهم۴
وهكذا بقيّتهم، حتى إذا ما أشرف عصرهم الأوّل على نهايته بالواثق (227 ـ 232 ه ) تفشّى الغناء والطرب والمجون بين أرباب الدولة اقتداءً بالواثق الذي كان يحسن الغناء ويجيد اللحن، وكانت له أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقا على ضرب العود! ۵ .
ولمّا جاء دور المتوكّل (232 ـ 247 ه ) في بداية العصر العبّاسي الثاني، انغمس في ملذّاته، وترك رعيّته وكان أخبث ملوك بني العبّاس وأشدّهم عداءً لأهل البيت عليهم السلام ، حتى أنّه من خباثته ونصبه هدم مشهد الإمام الحسين عليه السلام ۶ ، وقطع لسان ابن السكّيت النحوي رحمه الله لأنّه فضّل قنبر مولى أمير المؤمنين علي عليه السلام على ولديه: المعتزّ، والمؤيّد بعد ما سأله المتوكّل من أحبّ إليك، هما أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر خير منهما ۷ .
وكان يقرّب الشعراء من أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله كأبي الشمط لعنه اللّه ۸ ، وآثر الهزل والمضاحك والاُمور التي تشين الملوك ۹ ، فانهمك بالملذّات والشراب، وكانت له أربعة آلاف سرية ووطئ الجميع ۱۰ ، وكان في الليلة التي قُتل فيها لعنه اللّه قد سكر سكرا شديدا، حيث شرب في تلك الليلة ـ كما يقول ابن الأثير ـ أربعة عشر رطلاً ۱۱ فدخل عليه الأتراك: باغر، ويغلو، وواجن، وسعلفة، وكنداش فقتلوه شرّ قتلة وقتلوا معه وزيره الفتح بن خاقان في مجلس لهوهما ۱۲ . في حين لم يؤثر كلّ هذا المجون عن ولده المنتصر (247 ـ 248)، فسبحان من يخرج الطيّب من الخبيث.
ولما جاء المعتمد (256 ـ 279 ه ) «أهمل اُمور رعيّته، وتشاغل بلهوه ولذّاته حتى أشفى الملك إلى الذهاب» ۱۳ ، «وكان منهمكا باللذّات» ۱۴ «وكان المعتمد شغوفا بالطرب، والغالب عليه المعاقرة، ومحبّة أنواع اللهو والملاهي» ۱۵
وآثر اللذّة ، واعتكف على الملاهي ۱۶ ، وقال السيوطي: انهمك باللذّات والشراب، واشتغل عن الرعيّة فكرهه الناس ۱۷ . ومن شَرَهِ المعتمد أنّه مات بالتخمة ۱۸ «فجأة بين المغنّين والندماء» ۱۹ .
وأمّا المعتضد (279 ـ 289 ه ) فقد «كان أحسن الناس علما بالغناء» ۲۰ ، وهو الذي اعترف على نفسه بأنّه أفسد دينه ودنياه، إذ قال في آخر لحظاته أبياتا سرد فيها بعض ما جناه، يقول فيها:
رماني الردى سهما فأخمد جمرتيفها أناذا في حفرتي عاجلاً مُلقى
فأفسدت دنياي وديني سفاهةفمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى؟۲۱
وكانت أدنان الخمر تحمل إليه في الزوارق ۲۲ ومات (خليفة المسلمين) من كثرة الجماع ۲۳ .
ثم جاء من بعده المكتفي باللّه (289 ـ 295 ه )، وأوّل ما فعله أنّه قام بنهب ضياع الناس وبساتينهم، وبنى فيها قصره الشهير بناحية الشماسية بإزاء قطربل ۲۴ ، وقد اعترف في لحظاته الأخيرة بسرقته أموال المسلمين في بناء قصوره التي لم يكن محتاجا إليها على حدّ تعبيره ۲۵ .
وأمّا المقتدر باللّه (295 ـ 320 ه ) فكان لا يصلح أن يكون كاتبا في الديوان، ولا شرطيّا فكيف بالخلافة إذن؟! قال اليافعي : «كان مسرفا، مبذّرا، ناقص الرأي، يمحق الذخائر، حتى أنّه أعطى بعض جواريه الدرّة اليتيمة، وزنها ثلاثة مثاقيل» ۲۶ ، وقال السيوطي: «كان مؤثّرا للشهوات، مبذّرا، وكان النساء غلبن عليه، وأتلف أموالاً كثيرة، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان، غير الصقالبة، والروم، والسود» ۲۷ ولك أن تقدّر ضخامة البناء الذي يضمّ مثل هذا العدد من الخصيان فقط!!
وأمّا القاهر باللّه (320 ـ 322 ه )، فقد كانت فيه عجلة، وجرأة، وطيش، وهوج، وخرق شديد ۲۸ ، وهو: «ألثغ، شديد الإقدام على سفك الدماء، أهوج، محبّ لجمع المال على قلّته في أيّامه، قليل الرغبة في اصطناع الرجال، غير مفكّر في عواقب اُموره، راكبا ردعه، واطئا عشوائه، مع سوء تدبيره، وقبح سياسته» ۲۹
، قال معاصره الصولي (ت / 235 ه ) : «كان القاهر أهوج ، سفّاكا للدماء، قبيح السيرة، مدمن الخمر، كانت له حربة يحملها فلا يضعها حتى يقتل إنسانا، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل» ۳۰ ، وكان محبّا للغناء ۳۱ لا يصحو من سكر، ولا يفتر عن سماع.. قبيح السيرة، كثير التلوّن، مدمن الخمر ۳۲ ، وحينما هجم الأتراك عليه يريدون قتله، وجدوه سكرانا ۳۳ . ويكفي أنّ خلفه الراضي باللّه ـ على ما فيه ـ أمر ابن مقلة الكاتب المشهور أن يكتب كتابا في مثالب القاهر باللّه ؛ ليقرأ على الناس ۳۴ .
وأمّا الراضي باللّه (322 ـ 329 ه ) فقد كان يشرب الخمر ببستان سلفه (المقهور) التي أعدّها لاُنسه ولهوه وسكره ۳۵ ، وقد شهد نديمه الصولي في كتابه الشهير أخبار الراضي على أنّه «كان لا يشرب إلّا من الشراب العتيق الذي بقي منذ أيّام المعتضد والمكتفي» أي: ما كان من خمر أسلافه المعتّق منذ أربعين سنة! وفي كتابه هذا كثير من الشهادات الاُخرى، والعجيب أنّ الصولي كان يفتخر بمعاقرته الخمر مع الراضي، الذي كان يطلب من الأصمعي أن ينشده قصيدة أبي نؤاس في الراح:
فما العيش إلّا أن تراني صاحياوما العمر إلّا أن يتعتعني السكر
وقد سرد الكثير من فضائحه، ولم ينس تسمية رجال لهوه ومجونه، فمغنيه مثلاً هو عبدالواحد بن الطرخان، وصاحب اللحن والإيقاع ذودة الزطي الطنبوري ۳۶ وربّما استحيا الصولي أن يقول، وكان من يباشر الرقص هو الراضي.

1.. تاريخ اليعقوبي : ج ۲ ص ۴۸۷، تاريخ الطبري : ج ۹ ص ۱۷۶، في حوادث (سنة / ۲۳۵ ه )، مروج الذهب : ج ۴ ص ۸۷ ، التنبيه والإشراف : ص ۳۱۳، الكامل في التاريخ : ج ۶ ص ۱۰۵ في حوادث (سنة / ۲۳۵ ه ) ، تاريخ مختصر الدول : ص ۱۲۶ ، حضارة العرب / غوستاف لوبون : ص ۱۷۷.

2.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۲۲.

3.. أشعار أولاد الخلفاء من كتاب الأوراق : ص ۶۰ و۶۱ وقد ذكر لها أشعارا تتغزّل فيها بزينب (رشأ الخادم).

4.. ديوان أبي فراس الحمداني : ص ۳۰۴ ، القصيدة رقم (۳۰۳) البيت (۵۴).

5.. تاريخ الخلفاء: ص ۲۷۴.

6.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۱۳۵، الكامل في التاريخ : ج ۶ ص ۱۰۸.

7.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۷۹.

8.. الكامل في التاريخ : ج ۶ ص ۱۴۰.

9.. التنبيه والإشراف : ص ۳۱۴.

10.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۸۰.

11.. الكامل في التاريخ : ج ۶ ص ۱۳۸.

12.. تاريخ اليعقوبي : ج ۲ ص ۴۹۲، مروج الذهب : ج ۴ ص ۱۱۹ ـ ۱۲۰، الكامل في التاريخ : ج ۶ ص ۱۳۶ ـ ۱۳۸، تاريخ الخلفاء : ص ۲۸۰.

13.. التنبيه والإشراف : ص ۳۱۸.

14.. مرآة الجنان وعبرة اليقضان : ج ۲ ص ۱۴۴ و ۱۹۷ و ۱۹۸ و ۱۹۹ و۲۰۰.

15.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۲۲۰.

16.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۲۱۱، التنبيه والإشراف : ص ۳۱۶.

17.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۸۰ .

18.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۲۳۰، البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۷۵ .

19.. مرآة الجنان : ج ۲ ص ۱۱۴ .

20.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۹۱.

21.. البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۱۰۶، وقد ذكر ذلك في الكامل في التاريخ : ج ۶ ص ۴۱۰ ولكن حذف من القصيدة بيت الاعتراف!!.

22.. المصدر السابق : ج ۱۱ ص ۱۰۱ .

23.. تاريخ الخلفاء: ص ۳۰۰ ، والظاهر: من كثرة الزنا أو اللواط، بقرينة سفاهته واعترافه بإفساد دينه ودنياه، وما ذكره السيوطي لا يصحّ علّة للإفساد .

24.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۲۸۱.

25.. تاريخ الخلفاء : ص ۳۰۳ .

26.. مرآة الجنان : ج ۲ ص ۲۰۹.

27.. تاريخ الخلفاء : ص ۲۰۸ .

28.. البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۱۹۶.

29.. التنبيه والإشراف : ص ۳۳۶ .

30.. مرآة الجنان : ج ۲ ص ۲۱۳ ـ ۲۱۴.

31.. البداية والنهاية : ج ۱۱ ص ۱۹۵.

32.. تاريخ الخلفاء : ص ۳۱۰ .

33.. مرآة الجنان : ج ۲ ص ۲۱۳ ـ ۲۱۴.

34.. تاريخ الخلفاء : ص ۳۱۲.

35.. مروج الذهب : ج ۴ ص ۳۳۵ .

36.. أخبار الراضي والمتّقي من كتاب الأوراق : ص ۸ و۳۱ و۳۵ و۱۴۶ و۱۵۰ و۱۸۴ وغيرها كثير .


حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
68

المبحث الثاني : بغداد سياسيا وفكريا في عصر الكليني

المطلب الأوّل : الحياة السياسية ببغداد

امتاز العصر العبّاسي الأوّل (132 ـ 232 ه ) بسيطرة العبّاسيين على زمام الاُمور سيطرة محكمة، وإدارة شؤون الدولة بحزم وقوّة، بخلاف العصر العبّاسي الثاني الذي ابتدأ بمجيء المتوكّل إلى السلطة (سنة / 232 ه ) وانتهى بدخول البويهيين إلى بغداد (سنة / 344 ه ) حيث اختلف عن سابقه بتدهور الأوضاع السياسية كثيرا لاسيّما في الفترة الأخيرة منه، وهي التي عاشها الكليني ببغداد، وتقدّر بنحو عشرين عاما أو أكثر كما سيأتي في أسفار ثقة الإسلام الكليني ورحلاته العلمية، وحيث أنّ الكافي لم يكتمل تأليفه في الريّ ـ كما سيأتي ـ فلابدّ من إعطاء صورة واضحة للمؤثّرات الخارجية ـ السياسية والفكرية ـ التي أسهمت في تكوين رؤية الكليني للمجتمع الجديد وتساؤلاته التي حاول الإجابة عليها في كتابه الكافي، فنقول:
يرجع تدهور الحياة السياسية ببغداد في عصر الكليني إلى أسباب كثيرة أدّت إلى سقوط هيبة الدولة من أعين الناس، وقد ارتبط بعضها بالعصر العبّاسي الأوّل، وفيما يأتي دراسة لأهم الأسباب والعوامل التي أدّت إلى ذلك مجملة بالنقاط الآتية:

  • نام منبع :
    حياة الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
    المؤلف :
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث با همکاری سازمان اوقاف و امور خیریه
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1387
    نوبت چاپ :
    الاولی
عدد المشاهدين : 305035
الصفحه من 532
طباعه  ارسل الي