السنّة بين الكليني والزُّهري - صفحه 131

إذن ، فالمقصود بالقول هنا التدوين الرسمي حصرا ، وإلّا فإنّ من الثابت أيضا أنّ التدوين قد حصل قبل الزُّهري . وقد أشبع شيخنا الدكتور مهدوي راد هذه الملاحظة حقّها من البحث في كتابه تدوين الحديث .
جَماعُ القصّتين نقرأه في التوجّهات السياسيّة الجديدة التي أقرّها الخليفة العالِم الداهية عبد الملك ، ابتغاء ترميم الحالة المعنويّة للدولة المروانيّة ، بعد أن وصل الحكم الأُموي إلى حافّة الانهيار . ولم ينجح عبدالملك في استعادة مُلك بيته من الزُبيريّين إلّا بعد معارك شِداد ، واستغلال الأخطاء السياسيّة الغبيّة التي ارتكبها الزُبيريان (عبداللّه ومصعب) ، ممّا كشف الهشاشة في التركيب المعنوي للدولة ، كما أسّسها معاوية على قاعدةٍ صلبة ، نقطة ضعفها أنّها محصورة في الشام .
ومن هنا اتّجه عبد الملك نحو خطّةٍ جديدة ، تأخذ من خطّة سلفه معاوية اعتماد الحديث ليكون أداة سيطرة وجهاز قمع ذاتي . وفي هذا السبيل استقدم وقدّم الزُّهري ، تماما كما فعل معاوية يوم استقدم وقدّم أبا هُريرة .
هكذا ، فعندما خرج الزُّهري من اجتماعه بالخليفة في قصر الخضراء ليخاطب المُحدّثين قائلاً : «يا أهل الشام ، مالي أرى أحاديثكم ليست لها أزمّة ولا خُطُم؟» ۱ ، كنايةً عن الأسناد ، كان يقول لهم ضمنا : من الآن فصاعدا لا تُحدّثون إلّا عنّي! وهذا الكلام كان بمثابة إعلان عن تأسيس تركيبةٍ إعلاميّةٍ جديدة ، هو مصدرها الوحيد .
أمّا التدوين الرسمي للحديث ، بإملاءٍ من الزُّهري على أحد موظفي القصر ، فمن الواضح أنّ الغاية منه تثبيت الحديث مقدّمة لنشره «في الآفاق» ، على حدّ العبارة التي وردت أكثر من مرّة على لسان هذا الخليفة أو ذاك .
الخلاصة : إنّه بهذه الخطّة ذات الجانبين ، غدت الدولة المروانيّة مالكةً لجهاز توجيهٍ جماعي شامل ، يعمل بأمر السلطة ، ويستقي مادّته من رأس شخص واحد ،

1.سير أعلام النبلاء : ج ۵ ص ۳۳۴ .

صفحه از 134