ثُمَّ قالَت : أيُّهَا النّاعي ! جَدَّدتَ حُزنَنا بِأَبي عَبدِ اللَّهِ عليه السلام ، وخَدَشتَ مِنّا قُروحاً لَمّا تَندَمِل ، فَمَن أنتَ يَرحَمُكَ اللَّهُ ؟
قُلتُ : أنَا بَشيرُ بنُ حَذلَمٍ ، وَجَّهَني مَولايَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليه السلام وهُوَ نازِلٌ مَوضِعَ كَذا وكَذا مَعَ عِيالِ أبي عَبدِ اللَّهِ الحُسَينِ عليه السلام ونِسائِهِ .
قالَ : فَتَرَكوني مَكاني وبادَروا ، فَضَرَبتُ فَرَسي حَتّى رَجَعتُ إلَيهِم ، فَوَجَدتُ النّاسَ قَد أخَذُوا الطُّرُقَ وَالمَواضِعَ ، فَنَزَلتُ عَن فَرَسي وتَخَطَّيتُ رِقابَ النّاسِ حَتّى قَرُبتُ مِن بابِ الفُسطاطِ ، وكانَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليه السلام داخِلاً ، فَخَرَجَ ومَعَهُ خِرقَةٌ يَمسَحُ بِها دُموعَهُ ، وخَلفَهُ خادِمٌ مَعَهُ كُرسِيٌّ فَوَضَعَهُ لَهُ وجَلَسَ عَلَيهِ ، وهُوَ لا يَتَمالَكُ مِنَ العَبرَةِ ، فَارتَفَعَت أصواتُ النّاسِ بِالبُكاءِ ، وحَنينُ الجَوارى وَالنِّساءِ ، وَالنّاسُ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ يُعَزّونَهُ ، فَضَجَّت تِلكَ البُقعَةُ ضَجَّةً شَديدَةً ، فَأَومَأَ بِيَدِهِ أنِ اسكُتوا ، فَسَكَنَت فَورَتُهُم .
فَقالَ عليه السلام : الحَمدُ للَّهِِ رَبِّ العالَمينَ ، الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، مالِكِ يَومِ الدّينِ ، بارِئِ الخَلائِقِ أجمَعينَ ، الَّذي بَعُدَ فَارتَفَعَ فِي السَّماواتِ العُلى ، وقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجوى ، نَحمَدُهُ عَلى عَظائِمِ الاُمورِ ، وفَجائِعِ الدُّهورِ ، وألَمِ الفَواجِعِ ، ومَضاضَةِ۱ اللَّواذِعِ۲ ، وجَليلِ الرُّزءِ ، وعَظيمِ المَصائِبِ الفاظِعَةِ ، الكاظَّةِ الفادِحَةِ الجائِحَةِ .۳
أيُّهَا القَومُ ! إنَّ اللَّهَ تَعالى ولَهُ الحَمدُ ابتَلانا بِمَصائِبَ جَليلَةٍ ، وثُلمَةٍ فِي الإِسلامِ عَظيمَةٍ ، قُتِلَ أبو عَبدِ اللَّهِ عليه السلام وعِترَتُهُ ، وسُبِيَ نِساؤُهُ وصِبيَتُهُ ، وداروا بِرَأسِهِ فِي البُلدانِ مِن فَوقِ عامِلِ السِّنانِ ، وهذِهِ الرَّزِيَّةُ الَّتي لا مِثلَها رَزِيَّةٌ .
أيُّهَا النّاسُ ! فَأَيُّ رِجالاتٍ مِنكُم يُسَرّونَ بَعدَ قَتلِهِ ، أم أيَّةُ عَينٍ مِنكُم تَحبِسُ دَمعَها وتَضَنُّ عَنِ انهِمالِها ؟ فَلَقَد بَكَتِ السَّبعُ الشِّدادُ لِقَتلِهِ ، وبَكَتِ البِحارُ بِأَمواجِها ، وَالسَّماواتُ بِأَركانِها ، وَالأَرضُ بِأَرجائِها ، وَالأَشجارُ بِأَغصانِها ، وَالحيتانُ في لُجَجِ البِحارِ ، وَالمَلائِكَةُ المُقَرَّبونَ ، وأهلُ السَّماواتِ أجمَعونَ .
1.المَضَضُ : وجع المصيبة (الصحاح : ج ۳ ص ۱۱۰۶ «مضض») .
2.اللَّذعُ : حرقة كحرقة النار (لسان العرب : ج ۸ ص ۳۱۷ «لذع») .
3.الجائحة : كلّ مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة (النهاية : ج ۱ ص ۳۱۲ «جوح») .