۰.وما لي لا أبكي«310 » وما أدري إلى ما يَكونُ مَصيري «311 »وأرى نَفسي تُخادِعُني«312 » وأيّامي تُخاتِلُني؟ ۱ «313 »وقَد خَفَقَت عِندَ رَأسي أجنِحَةُ المَوتِ «314 » فَما لي لا أبكي؟!«315 » أبكي لِخُروجِ نَفسي «316 »أبكي لِظُلمَةِ قَبري «317 »أبكي لِضيقِ لَحدي «318 »أبكي لِسُؤالِ مُنكَرٍ ونَكيرٍ إيّايَ «319 »أبكي لِخُروجي مِن قَبري عُريانا ذَليلاً حامِلاً ثِقلي عَلى ظَهري «320 » أنظُرُ مَرَّةً عَن يَميني واُخرى عَن شِمالي «321 »إذِ الخَلائِقُ في شَأنٍ غَيرِ شَأني «322 » «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ » وذلّة
شرع ـ صلوات عليه ـ في موجبات البكاء ، ويعلّمنا المصائب والمتاعب والمهالك الّتي تأتي في عالم البرزخ الناشئة من أعمالنا وغفلاتنا في الدنيا ، ويجب علينا علاج هذه كلّها في الدنيا ، قال :
«مالي لا أبكي» أي لأيّ علّةٍ لا أبكي ؟ وما هذه القسوة والغفلة ؟ وما السبب في ذلك؟ ولا بدّ أنّه يرجع إلى نفس المكلّف من أعماله القبيحة الفاسدة الّتي أثّرت في الشخص حتّى جعله قسيّا شقيّا ، قال تعالى : «فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ » ، ۲ في الحديث : «فإنّ الّذين يكثرون الكلام في غير ذكر اللّه ، قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون» ، ۳ وفيه : «إنّ أكل العدس يرقّ القلب ويُكثر الدمعة» ، ۴ وفيه : «من أحبّ أن يرقّ قلبه فليدمن أكل البلس ، يعني التين» . ۵
«وما أدري إلى ما يكون مصيري» من الهداية أو الضلالة ، ومن التقوى أو الفجور ، ومن الجنّة أو الجحيم ، وعلائق النفس بالدنيا وزخارفها وزبارجها وتزيّن الدنيا لها ، «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَ تِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَـطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِوَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَـمِ وَالْحَرْثِ» ، في حديثٍ : «من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه ، ومن أساء فيما بقي من عمره أُخذ بالأوّل والآخر» ، ۶ وفيه : «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة لا يتيقّن الوصول إلى رضوان اللّه ، حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له» ، ۷ وفي الدعاء : «واختم لنا بالّتي هي أحمد عاقبة ، وأكرم مصيرا» ، ۸ وفي الدعاء : «فاقض بخيرها عاقبة ونجّني من مضلّات الفتن» ، ۹ قال اللّه سبحانه : «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ » ، ۱۰ وليعتبر باليهود ، قطنوا بالمدينة رجاء الإيمان برسول اللّه صلى الله عليه و آله «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ » ، ۱۱ وأصحاب رسول اللّه ارتدّوا بعده ... إلخ .
«وأرى نفسي تخادعني وأيّامي تخاتلني» قال الراغب : «الخداع : إنزال الغير عمّا هو بصدده بأمرٍ يبديه على خلاف ما يخفيه ، قال تعالى : «يُخادِعُونَ اللّه َ » ، ۱۲ أي يخادعون رسوله : أي إنّ نفسي تظهر لي أمرا على خلاف ما يخفيه ، فيمنعني عمّا أنا بصدده» . ۱۳ والمخاتلة : هي المخادعة عن غفلة ، من ختل الذئب الصيد : تخفّى له ، أي الأيّام تتخفّى حتّى يصيدني ليلة ، كناية عن مرورها والإنسان في غفلةٍ عن مرورها ، فيرى الإنسان نفسه قد تكهّل ، ثمّ شاخ وهرم ، ثمّ يجيء الموت كأنّه عاش يوما أو بعض ، قال سبحانه : «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ » . ۱۴
«وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت» خفقه خفقا : ضربه بشيء عريض ، وخفق النعل : صوّتت ، شبّه الموت بطائر يطير ويسمع صوت أجنحته ، والجناح ما يطير به الطائر ، والغرض بيان قرب الموت بحيث يتوقّع نزوله عليه في كلّ آن وحين.
«فمالي لا أبكي ؟ أبكي لخروج نفسي» أي أبكي لفراق روحي عن البدن ، وهو الموت ، وهو مع ما فيه من الشدائد والسكرات ، « جَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَ لِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ» ، وخروج النفس حسب الآيات الكريمة إنّما هو بواسطة ملك الموت وأعوانه ، أمّا المؤمن فبإرفاقٍ ورحمة ورأفة فروحٍ وريحان وجنّة نعيم ، وأمّا الكافر فنزلٍ من حميم وتصلية جحيم ، يضربون وجوههم وأدبارهم أن أخرجوا أنفسكم ، نعوذ باللّه تعالى ، قال أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) : «نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يُوعدون ، فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأُذنه ، على صحّةٍ من عقله ، وبقاءٍ من لبّه ، يفكّر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره ، ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها» . ۱۵
«أبكي لظلمة قبري» الّتي تنقطع فيها آثارها وتغيب أخبارها .
«أبكي لضيق لحدي» عن موسى بن جعفر عليهماالسلامقال عند قبرٍ : «إنّ شيئا هذا آخره لحقيق أن يُزهده في أوّل ، وإنّ شيئا هذا أوّله لحقيق أن يُخاف آخره» ، ۱۶ وعن الصادق عليه السلام هذا الدعاء : «اللّهمّ بارك لي في الموت ، اللّهمّ أعنّي على سكرات الموت ، اللّهمّ أعنّي على غمّ القبر ، اللّهمّ أعنّي على ضيق القبر ، اللّهمّ أعنّي على ظلمة القبر ، اللّهمّ أعنّي على وحشة القبر ، اللّهمّ زوّجني من الحور العين» ، ۱۷ وفي الحديث : «استبدلوا بظهر الأرض بطنا ، وبالسعة ضيقا ، وبالأهل غربة» . ۱۸
«أبكي لسؤال منكر ونكير إيّاي» قال علي عليه السلام : «حتّى إذا انصرف المشيّع ورجع المتفجّع ، أُقعد في حفرته نجيّا لِبَهتِةِ السؤال وعثرة الامتحان ، وأعظم ما هنالك بلية نزول الحميم وتصلية الجحيم ، وفورات السعير ، وسورات الزفير ، لا قترة مريحة ولا دَعَة مزيحة ، ولا قوّة حاجزة ، ولا موتة ناجزة» . ۱۹
ويستفاد من بعض الآيات السؤال عند قبض روح الإنسان ، وفي الصحيفة : «ورسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء ، والسفرة الكرام البررة، والحفظة الكرام الكاتبين ، وملك الموت وأعوانه ، ومنكر ونكير وردمان فتّان القبور» . ۲۰
«أبكي لخروجي من قبري عريانا» : يعني من الموارد الّتي يُبكى عليها الخروج من القبر ، وهو الحشر والنشر المذكوران في القرآن الكريم ، وفي الدعاء : «واكسنا به حلل الأمان يوم الفزع الأكبر في نشورنا» ، ۲۱ وفي الدعاء أيضا : «وارحمني في حشري ونشري» ، ۲۲ وفي الحديث في تكفين فاطمة بنت أسد ، ۲۳ وفيه : «يُحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلاً» . ۲۴
«حاملاً ثقلي على ظهري» الثِقل : الذنب ، جمع الأثقال ، قال سبحانه : «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ » ، ۲۵ والثقل بالتحريك : زاد المسافر ، شبّه الآثام على ما يحمله الإنسان على ظهره من المتاع ، وفي الدعاء : «وهذا ظهري قد أثقلته الخطايا» ، ۲۶ وفيه : «وظهر مثقل من الخطايا» ، ۲۷ وفي النهج : «وحمّلوا ثقل أوزارهم على ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها» . ۲۸ أي أبكي لخروجي من قبري وعليّ أوزار ثقيلة . وقد يُطلق على الإثم الوزر ، قال تعالى : «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ » . ۲۹
«أنظر مرّة عن يميني وأُخرى عن شمالي» كأنّه يطلب من يحمل عنه أوزاره أو يعينه وينجيه ، قال سبحانه : «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » . ۳۰
«إذ الخلائق في شأن غير شأني» الخلق : الناس ، وجمعه الخلائق ، الشأن : الحال والأمر الذي يتفّق ويصلح ، ولا يقال إلّا فيما يعظم من الأحوال والأُمور (كذا قال الراغب) . ۳۱
«لكلّ امرئ منهم شأن يغنيه» أي كلّ امرئ مشغول بحاله وشأنه ، يغنيه : أي يكفيه في الاهتمام به.
«وجوه يومئذ مسفرة» أي مضيئة ، من إسفار الصبح . «ضاحكة مستبشرة» لما يرى من الفلاح والنجاح والروح والريحان وجنة نعيم . «ووجوه يومئذٍ عليها غبرة» أي غبار وكدورة . «ترهقها» أي يغشاها «قترة» وذلّة أي سواد وذلّة ، وقال سبحانه : «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ » ، ۳۲ وقال تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ » ، ۳۳ وقال : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ * عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى ناراً حامِيَةً * تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ * لِسَعْيِها راضِيَةٌ » . ۳۴
1.أي تخادعني عن غفلة.
2.الحديد : ۱۶.
3.الكافي : ج ۲ ص ۱۱۴ ، الأمالي للمفيد : ص ۲۰۹ اُنظر : بحار الأنوار : ج ۱۴ ص ۳۲۵ .
4.الكافي : ج ۶ ص ۳۴۳ ، المحاسن : ج ۲ ص ۵۰۴ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۵۹ ص ۲۸۳ .
5.مكارم الأخلاق : ص ۱۷۳ ، بحار الأنوار : ج ۶۳ ص ۱۸۶ .
6.الأمالي للصدوق : ص ۱۱۱ ، كفاية الأثر : ص ۱۹۰ ، روضة الواعظين : ص ۴۷۵ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۳۶ ص ۳۵۰ .
7.المحتضر : ص ۵۲ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۶ ص ۱۷۶ .
8.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۳۳ .
9.المصدر السابق : الدعاء ۵۴ .
10.الأعراف : ۱۷۵ .
11.البقرة : ۱۷۵ .
12.البقرة : ۹ .
13.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۱۴۳ .
14.المؤمنون : ۱۱۲ .
15.نهج البلاغة : الخطبة ۱۰۹.
16.معاني الأخبار : ص ۳۴۳ ، تحف العقول : ص ۴۰۸ ، بحار الأنوار : ج ۷۰ ص ۱۰۳ .
17.تهذيب الأحكام : ج ۳ ص ۹۳ ، الإقبال : ج ۱ ، ص ۳۳۱ ، المصباح للكفعمي : ص ۵۷۵ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۹۵ ص ۱۳۵ .
18.نهج البلاغة : الخطبة ۱۱۱ ، تحف العقول : ص ۱۸۳ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷۰ ص ۹۸.
19.نهج البلاغة : الخطبة ۸۳ .
20.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۳ .
21.المصدر السابق : الدعاء ۴۲ .
22.المصدر السابق : الدعاء ۵۳ .
23.اُنظر : بحار الأنوار : ج ۶ ص ۲۴۱ .
24.اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷ ص ۱۲. الغرل بالغين المضمومة والراء ، جمع أغرل : من لم يختن .
25.العنكبوت : ۱۳.
26.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۴۹ .
27.المصدر السابق : الدعاء ۸۸ .
28.نهج البلاغة : الحكمة ۲۲۲ .
29.النحل : ۲۵ .
30.عبس : ۳۴ ـ ۳۷ .
31.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۷۱ .
32.آل عمران : ۱۰۶ .
33.القيامة : ۲۲ ـ ۲۴ .
34.الغاشية : ۲ ـ ۸ .