۰.فَيا مَولايَ ويا مُؤَمَّلي ويا مُنتَهى سُؤلي «348 »فَرِّق بَيني وبَينَ ذَنبِيَ المانِعِ لي مِن لُزومِ طاعَتِكَ «349 » فَإِنَّما أسأَلُكَ لِقَديمِ الرَّجاءِ فيكَ وعَظيمِ الطَّمَعِ مِنكَ «350 » الَّذي أوجَبتَهُ عَلى نَفسِكَ مِنَ الرَّأفَةِ وَالرَّحمَةِ «351 »فَالأَمرُ لَكَ وَحدَكَ «352 »وَالخَلقُ كُلُّهُم عِيالُكَ ۱ وفي قَبضَتِكَ «353 »وكُلُّ شَيءٍ خاضِعٌ لَكَ«354 »تَبارَكتَ يا رَبَّ العالَمينَ «355 »
مولى ، مرّ معناه آنفا.
مؤمّل : من الأمل بمعنى الرجاء ، فالمؤمّل : المرجوّ ، والمراد يا من أرجوه لحوائجي ولا أرجو غيره.
«ويامنتهى سؤلي» المنتهى بمعنى النهاية ، يعني غاية الشيء وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه السؤل ، والسؤال ـ مضموما بالهمز وعدمه ـ : الحاجة وما سألته ، يقال : قضى سؤله ، أي حاجته ، والمراد : يامن هو غاية ما أسأل وأقصى حاجتي ؛ لأنّه تعالى غاية مراد المريدين ومنتهى طلب الطالبين ، وفي الدعاء : «يا أملي وبغيتي وياسؤلي ومنيتي» ، ۲ «ياغاية آمال قلوب الصادقين» . ۳
قال السيّد رحمه الله في شرح الدعاء الثالث في شرح قوله عليه السلام : «اللّهمّ يامنتهى مطلب الحاجات» ما ملخّصه : «وكونه تعالى منتهى طلب الحاجات يمكن تقريره على وجوه :
الأوّل : ما تقرّر عند أرباب العقول من أنّ كلّ موجود سوى اللّه عزّ وجلّ فهو ناقص من وجه ، وفيه قوة كما أنّ له كمالاً وفعلية ، إذ كلّ ممكن فهو زوج تركيبي ، فكلّ موجود فهو لأجل شعوره بالوجود الناقص طالب للموجود المطلق الكامل... فكلّ موجود فهو طالب لما فوقه ، فإذا وصل إليه طلب ما هو أعلى منه وهكذا إلى أن يصل إلى مطلوبه الحقيقي الذي لا أكمل منه وهو اللّه سبحانه ، وعند ذلك يطمئنّ ويسكن شوقه... فكان سبحانه منتهى مطلب الحاجات .
الثاني : ما تقرّر عند أرباب العرفان من كونه تعالى منتهى مقامات العارفين وغاية أطوار السالكين وأفكار المتفكّرين ، فإنّهم لا يزالون يترقّون من مقامٍ إلى مقام ومن رتبةٍ إلى رتبة ، حتّى ينتهوا إلى تلك الحضرة بفنائهم واندكاك حبال هويّاتهم ، فيتلو لسان حالهم : «أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى » .
الثالث : إنّه المنتهى إليه في طلب الحاجات عند اليأس من كلّ مطلوب إليه سواه .
الرابع : إنّ كلّ مطلوب إليه حاجة سواه فلا بدّ أن يكون له حاجة يطلبها من غيره إلى أن ينتهى الطلب إليه تعالى ، وهو الذي يطلب منه الكلّ ويفتقر إليه وهو الغنيّ الحميد ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ كلّ مترئّس في هذه الدنيا ومتعظّم فيها وإن عظم غناه وطغيانه وكثرت حوائج من دونه إليه ، فإنّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم ، وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها ، فينقطع إلى اللّه عند ضرورته وفاقته» ، انتهى . ۴
«فرّق بيني وبين ذنبي المانع من لزوم طاعتك» الفرق يقارب الفلق ، لكنّ الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق ، والفرق يقال اعتبارا بالانفصال ، والمراد إمّا الفصل بينه وبين الذنب بالغفران ومحو آثاره التكليفية والوضعيّة ، أو الفصل بينه وبينه بتوفيقه تركه ، يعني باعد بيني وبين الذنوب الّتي أثرها المنع عن لزوم الطاعة ، وامنعني عن ارتكابها.
وفي الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السلام : «إنّ الرجل يذنب الذنب فيُحرم صلاة اللّيل ، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللّحم» . ۵
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : «كان أبي يقول : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة ، فلا تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله» . ۶
وعن أبي بصير قال : «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : إذا أذنب الرجل خرج من قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب انمحت ، وإن زاد زادت حتّى تغلب على قلبه ، فلا يفلح بعدها أبدا» . ۷
وعن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء ، فإن تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادى في الذنوب زاد تلك السواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبدا ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ »۸ ، وقال سبحانه : «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّه ِ »۹ » ۱۰ ومن المسلّم أثر الذنوب وضعا على الإنسان جسمه وروحه ومن أسوأ الآثار ، هو ما ذكر في الكتاب والسنّة.
«فإنّما أسألك لقديم الرجاء فيك وعظيم الطمع منك» كلمة «إنّما» للحصر ، يعني بالنظر إلى الذنوب والآثام الصادرة عن الداعي ، لا يبقى له موضع أمل ورجاء في سؤاله إلّا قديم الرجاء فيه تعالى ، إذا ذكر ما اعتاده من فضله تعالى وكرمه ، يطمع في إنعامه وإفضاله سبحانه ، فكأنّه يتكلّم ويسأل على ما عوّده تعالى بالفضل العميم والكرم الجسيم.
«الذي أوجبته على نفسك من الرأفة والرحمة» الرأفة من رأف اللّه بك : رحم أشدّ الرحمة ، قال ابن الأثير : «الرأفة أرقّ من الرحمة ، ولا تكاد تقع في الكراهة ، والرحمة تقع في الكراهة للمصلحة» . ۱۱
والرؤوف من أسمائه الحسنى عزّ وجلّ ، ذُكر في القرآن الكريم مع الرحيم بقوله تعالى : «رَؤُفٌ رَحِيمٌ » ، ۱۲ ولعلّ المراد من إيجاب الرأفة إخباره تعالى بقوله : «وَاللّه ُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ » ، ۱۳ و «إِنَّ اللّه َ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » ، ۱۴ و «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ »۱۵ و «أَنَّ اللّه َ رَؤُفٌ رَحِيمٌ » . ۱۶ أي أوجبت على نفسك الرحمة والرأفة وسبقت رحمتك فصار سببا لفضلك ورحمتك ، فأوجد الرجاء والطمع العظيم في العبد فسألك ورجاك مع ذنوبه الكثيرة.
«فالأمر لك وحدك لا شريك لك» الأمر هنا أي الأمر بالإعطاء والمنع ، «للّه ِِ الأَْمْرُ مِنْ قَبْلُوَمِنْ بَعْدُ » ، ۱۷ لا أمر لأحد من المخلوقين ، أو لا أمر لأحد ممّن يسمّونه إلها ، وحدك لا شريك لك في الملك والتدبير والإعطاء والمنع والأمر والنهي.
«والخلق كلّهم عيالك وفي قبضتك» الخلق : أي المخلوق ، والعيال واويّة يائيّة للمذكّر والمؤنّث ، جمع والمفرد عيّل ، وربّما ، أُطلق على الجمع كما يُطلق العيال على المفرد ، والمعنى عيّل الرجل أهل بيته الّذين يتكفّل بهم ويموّنهم . أي الخلق كلّهم عيالك تموّنهم وتتكفّل رزقهم وهم في قبضتك ، أي في حوزتك ، حيث لا تمليك لأحد ، والقبضة بالفتح أيضا و القبضة بالضمّ وهو أكثر ما قبضت عليه من شيء أو مل ء الكفّ ، يقال : أعطاه قبضة من تمر أو سويق ؛ أي كفّا .
«وكلّ شيء خاضع لك تباركت ياربّ العالمين» الخضوع : الخشوع والتذلّل والتطامن ، والخشوع : الضراعة وأكثر ما يوجد على الجوارح ، والضراعة أكثر ما يوجد في القلب ، وروي : «إذا ضرع القلب خشعت الجوارح» ، ۱۸ وخضع له : انقاد ، وكلّ شيء خاضع لك ؛ أي منقاد لك.
«تباركت» من البركة بمعنى النماء والزيادة ، بارك اللّه : جعل فيه البركة ، قال الراغب : «البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ، والمبارك ما فيه ذلك الخير ، ولمّا كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحسّ وعلى وجه لا يُحصر ولا يُحصى ، قيل لكلّ ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة : هو مبارك وفيه بركة ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين تنبيه على اختصاصه بالخيرات المذكورة» (انتهى باختصار منّي) . ۱۹
وقال الراغب في «علا» : «فَتَعالَى اللّه ُ عَمّا يُشْرِكُونَ »۲۰ وتخصيص لفظ التفاعل لمبالغة ذلك منه لا على سبيل التكلّف ، كما يكون من البشر» انتهى ، ۲۱ فعلى هذا يكون المعنى كثرة الخيرات منك كثرة عظيمة.
«ياربّ العالمين» العالم بفتح اللّام : الخلق كلّه ، وقيل : اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأعراض ، وهو في الأصل اسم لما يعلم به كالطابع والخاتم لما يختم به ، وأمّا جمعه فلأنّ من كلّ نوع من هذه يُسمّى عالما فيقال : عالم الإنسان ، وعالم الماء ، وعالم النار ، وأمّا جمعه جمع السلامة فلكون الناس في جملتهم والإنسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب حكمه ، وقال جعفر بن محمّد عليه السلام : «عنى به الناس ، وجعل كلّ واحد منهم عالما» ، وقال : «العالم عالمان ، الكبير هو الفلك بما فيه ، والصغير وهو الإنسان ؛ لأنّه مخلوق على هيئة العالم ، وقد أوجد اللّه تعالى فيه كلّ ما هو موجود في الكبير» . ۲۲
1.في الإقبال : «عبادك» بدل «عيالك» .
2.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۱۸۲.
3.الإقبال : ج ۳ ص ۳۳۵.
4.رياض السالكين : ج ۳ ص ۱۲ .
5.الكافي : ج ۲ ص ۲۷۲ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷۰ ص ۳۳۰.
6.الكافي : ج ۲ ص ۳۶۸ ، الأمالي للصدوق : ص ۴۸۱ ، الأمالي للطوسي : ص ۴۳۸ ، روضة الواعظين : ص ۴۱۴ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۶۷ ص ۵۴ .
7.الكافي : ج ۲ ص ۳۷۱ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷۰ ص ۳۲۷.
8.المطفّفين : ۱۴ .
9.الروم : ۱۰.
10.الكافي : ج ۲ ص ۲۷۳ ، بحار الأنوار : ج ۷۰ ص ۳۳۲.
11.النهاية : ج ۲ ص ۱۷۶.
12.التوبة : ۱۱۷ و ۱۲۸ ، النور : ۲۰ ، الحشر : ۱۰.
13.البقرة : ۲۰۷ ، آل عمران : ۳۰ .
14.البقرة : ۱۴۳ ، الحج : ۶۵ .
15.النحل : ۷ .
16.النور : ۲۰ .
17.الروم : ۴ .
18.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۱۴۸ .
19.المصدر السابق : ص ۴۴.
20.الأعراف : ۱۹۰ ، النمل : ۶۳ ، القصص : ۶۸.
21.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۴۵.
22.انظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۴۴ و ۳۴۵ .