۰.فَإِن عَفَوتَ يا رَبِّ فَطالَما عَفَوتَ عَنِ المُذنِبينَ قَبلي «219 » لِأَنَّ كَرَمَكَ أي رَبِّ يَجِلُّ عَن (مُجازاةِ المُذنِبينَ «220 »وحِلمَكَ يَكبُرُ عَن ) ۱ مُكافاةِ المُقَصِّرينَ «221 »وأنَا عائِذٌ بِفَضلِكَ ، هارِبٌ مِنكَ إلَيكَ «222 »مُنتَجِزٌ (مُتَنَجِّزٌ) ما وَعَدتَ مِنَ الصَّفحِ عَمَّن أحسَنَ بِكَ ظَنّاً «223 » إلهي أنتَ أوسَعُ فَضلاً وأعظَمُ حِلما مِن أن تُقايِسَني بِعَمَلي «224 »أو أن تَستَزِلَّني بِخَطيئَتي «225 »وما أنَا يا سَيِّدي وما خَطَري؟!«226 »هَبني بِفَضلِكَ سَيِّدي «227 »وتَصَدَّق عَلَيَ بِعَفوِكَ«228 »وجَلِّلني بِسِترِكَ «229 »وَاعفُ عَن تَوبيخي بِكَرَمِ وَجهِكَ «230 »
«فإن عفوت ياربّ» العفو : القصد لتناول الشيء ، عفوت عنه : قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه ، فالمفعول في الحقيقة متروك ، عفا اللّه عن فلان : محا ذنبه ، وعفا عن الحقّ : أسقطه ، كأنّه محاه.
أي إن أزلت عنّي ما صدر عنّي من هذه الأعمال الموجبة للخذلان وسلب التوفيق ياربّ ، فطالما عفوت عن المذنبين قبلي ، وأزلت عنهم حتّى كأنّهم لم يرتكبوا شيئا ، حتّى عادوا إلى حالتهم الأُولى من حبّك وكرامتك ، وزالت عنهم الآثار الوضعية والتكليفية . توسّل (صلوات اللّه عليه) بالاسم المبارك وهو الربّ ، وقد تكرّر في القرآن الكريم كثيرا ، سيّما في دعوات الأنبياء عليهم السلام ؛ لأنّه مشتمل على نفي الشرك وأنّه سبحانه هو المدبّر والضارّ والنافع ، وهو الكافل والمغيث والمعين والمفرّج والكاشف ... وهذا الاسم هو الشافع عند اللّه سبحانه في رفع هذه البلية وغيرها ، نسأله رفع الكرب ؛ لأنّه هو المدبّر والسيّد والوليّ دون غيره.
«لأنّ كرمك أي ربّ يجلّ عن مكأفأة المقصّرين» علّل (صلوات اللّه عليه) عفوه عن المذنبين قبله وعنه بأنّه تعالى كريم ، وقد مرّ الكلام حول الكرم والكريم ، وهو الجواد الذي لا ينفد عطاؤه إلى آخر ما مرّ.
استدلّ بعفو اللّه تعالى بأنّ كرمك أجلّ وأعظم من مكأفاة المقصّرين ، ومقابلة إساءتهم بالإساءة ، بل الكريم يقابل الإساءة بالإحسان والفضل والإنعام ... إلخ .
«وأنا عائذ بفضلك هارب منك إليك» عاذ به من كذا : لجأ إليه واعتصم ، تقول : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ؛ أي ألتجئ إلى اللّه وأعتصم من الشيطان ، والعوذ : الالتجاء إلى الغير والتعلّق به ، أي أنا التجأت إليك ، وأعتصم بك وبفضلك ، وفي الحقيقة أنا ألتجئ من سخطك وعذابك ومكافأتك إيّاي بجرمي وجريرتي إلى فضلك ، وهارب منك أي من سخطك إليك أي إلى فضلك ، والفضل هو الإحسان والابتداء به بلا علّة ، والفضل الزيادة عن الاقتصاد .
«متنجّز» من تنجّز حاجته : استنجحها وطلب قضاءها ممّن وعده إيّاها ، «ما وعدت من الصّفح» وعده سبحانه لمن أحسن الظنّ ، قال سبحانه : «الظّانِّينَ بِاللّه ِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ »۲ و «ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ » ، ۳ وقال سبحانه : «اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ »۴ و «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه ِ »۵«إِنَّ اللّه َ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً » . ۶
قال عليه السلام في الصحيفة : «اللّهمّ إنّه يحجبني عن مسألتك خِلالٌ ثلاث ، وتحدوني عليها خلّة واحدة ، يحجبني أمرٌ أمرت به فأبطأت عنه ، ونهيٌ نهيتني عنه فأسرعت إليه ، ونعمة ، أنعمت بها عليّ فقصّرت في شكرها ، ويحدوني على مسألتك تفضّلك ، على من أقبل بوجهه إليك ، ووفد بحسن ظنّه إليك ، إذ جميع إحسانك تفضّل وإذ كلّ نعمتك ابتداء» . ۷
فالمراد هو كون العبد راجيا قبول التوبة ، إن كان عاصيا فيتوب إليه وراجيا إجابة دعائه وكشف ضرّه إن كان داعيا يطلب الحاجة.
عن الكافي عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «وجدنا في كتاب علي عليه السلام : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال ـ وهو على منبره ـ : والذي لا إله إلّا هو ، ما أُعطي مؤمن قطّ خير الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه باللّه تعالى ، ورجائه له ، وحسن خلقه ، والكفّ عن اغتياب المؤمنين ، والذي لا إله إلّا هو لا يعذبّ اللّه مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلّا بسوء ظنّه باللّه ، وتقصيره من رجائه ، وسوء خلقه ، واغتيابه المؤمنين ، والذي لا إله إلّا هو لا يحسن ظنّ عبد مؤمن باللّه إلّا كان اللّه عند ظنّ عبده المؤمن ؛ لأنّ اللّه كريم بيده الخيرات ، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثمّ يخلف ظنّه ورجاءه ، فأحسنوا باللّه الظنّ وارغبوا إليه» . ۸
وعن الرضا عليه السلام قال : «أحسن الظنّ باللّه ، فإنّ اللّه (عزّ وجلّ) يقول : أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن بي ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ» . ۹
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول : «حسن الظنّ باللّه ، ألّا ترجو إلّا اللّه ولا تخاف إلّا ذنبك» . ۱۰
يعني إنّي أطلب تنجّز وعدك في قبول توبة من رجاك ، وأقبل إليك تائبا معتقدا أنّك تقبل التوبة وتعفو عمّن أذنب ، ثمّ تاب ، وهذا الوعد يُستفاد من القرآن الكريم والأحاديث الكثيرة .
وفي هاتين إيحاء إلى أنّ العبد المؤمن يحسن له أن يكون متفضّلاً على من عاذ به وهرب إليه وأحسن به الظنّ ، فيعفو عمّن أساء إليه ورجا عفوه ، وأن يتفضّل بحسن القبول وإجابة الملهوف وإنجاز حاجته.
«إلهي» الإله من أله فلان يأله : أي عبد ، فالإله هذا هو المعبود ، وقيل هو من أله ؛ أي تحيّر ، وتسميته بذلك إشارة إلى ما قال أمير المؤمنين عليه السلام : «كلّ دون صفاته تحبير اللغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات» ، ۱۱ وقيل : أصله ولاه ، فأُبدل من الواو همزة ، وتسميته بذلك لكون مخلوق والها نحوه ، إمّا بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات ، وإمّا بالتسخير والإرادة معا كبعض الناس ، ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء : اللّه محبوب الأشياء كلّها ، وعليه دلّ قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » . ۱۲
وقيل أصله من لاه يلوه لياها ، أي احتجب ، قالوا : وذلك إشارة إلى ما قال تعالى : «لا تُدْرِكُهُ الأَْبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَْبْصارَ » ، ۱۳ وإله حقّه ألّا يجمع ؛ إذ لا معبود سواه ، لكنّ العرب لاعتقادهم أنّ هاهنا معبودات جمعه فقالوا : الآلهة . ۱۴
أقول : لكنّ الظاهر أنّ اللّه علم للذات الواجب تعالى ، والإله اسم لكلّ معبود.
«أنت أوسع فضلاً وأعظم حلما من أن تقايسني بعملي» فإن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، وإن كان العدل يقتضي ذلك أو وإن كان بعض مراتب الفضل لا ينافيه لعظم جرمي وخطيئتي ، ولكنّ فضلك أعظم من كلّ جرم وحلمك أعظم من كلّ خطيئة ، بل فضلك الجسيم وحلمك العظيم يقتضي العفو أو يقتضي تبديل السيّئات بالحسنات .
«أو أن تستزلّني بخطيئتي» استزلّه إذا تحرّى زلّته ، وقوله : «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ »۱۵ أي استجرّهم حتّى زلّوا ، فإنّ الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه.
أي أنت أوسع فضلاً وأعظم حلما من أن تطلب زلّتي لارتكابي المعصية ، فكأنّه عليه السلام يطلب من اللّه تعالى أن يحفظه من الوقوع في المعاصي الذي هو من آثار المعصية الّتي ارتكبها ، فهو عليه السلام يسأل اللّه تعالى أن يعفو عن الذنب بعدم العقاب وبعدم الأثر الوضعي للمعصية ، بأن يحفظه عن الأثر الموضعي للمعصية من سلب التوفيق وقطع الهداية ، أو الختم والطبع الذي قد ينتهي إليه المعاصي ، قال سبحانه : «فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّه ُ قُلُوبَهُمْ » ، ۱۶ وقال : «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّه ِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ » ، ۱۷ وقال : «فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّه َ ما وَعَدُوهُ » . ۱۸
«وما أنا ياسيّدي وما خطري» يطلب العفو من ناحية أُخرى ، فإنّ المولى قد يعفو لسعة فضله وعظم حلمه ، وقد يعفو لأنّ المجرم لا يُعتنى به لعدم الاعتناء بقدره وشخصيته ؛ لأنّه لا خطر له ، أي لا شرف ولا رفعة قدر ومنزلة.
يعني أيّ شيء ياسيّدي أنا (ويقال ذلك لبيان التصغير والتحقير لنفسه) حتّى يُعتنى بعملي وإساءتي ، وما خطري ؛ أي قدري ومنزلتي ؟
وفي الصحيفة : «فارحمني اللّهمّ ؛ فإنّي امروٌ حقير ، وخطري يسير ، وليس عذابي ممّا يزيد في ملكك مثقال ذرّة ، ولو أنّ عذابي ممّا يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه ، وأحببت أن يكون ذلك لك» . ۱۹
وفيها : «وسألتك مسألة الحقير الذليل البائس الفقير الخائف المستجير... وأنا بعد أقلّ الأقلّين ، وأذلّ الأذلّين ، ومثل الذّرة أو دونها» . ۲۰
«هبني بفضلك» من وهب يهب ، ولا يتعدّى إلى المفعول الأوّل بنفسه ، فلا يقال : وهبتك مالاً ، ويقال وهبت لك مالاً ، والتقدير هنا وهب لي نفسي مثلاً كذا . قيل : والفقهاء يعدّونه وقد يُجعل له وجه ، وهو أن يضمّن وهب معنى جعل ، فيتعدّى بنفسه إلى مفعولين . وعلى كلّ حال ، أحد المفعولين هنا محذوف ويُقدّر مع اللّام كما قلنا .
«وتصدّق علي بعفوك» أي اجعل عفوك عنّي صدقة تتصدّق به عليّ ، من تصدّق على الفقير بكذا أعطاه إيّاه صدقة.
«جلّلني بسترك» من جلّل الشيء ؛ أي غطّاه ، ومنه جلّل المطر الأرض إذا عمّها وطبقها فلم يدع شيئا إلّا غطّى عليه . والمعنى غطّني واسترني بسترك ، والستر واحد الستور والأستار ، وهو ما يستر به كائنا ما كان ، (وردت أحاديث كثيرة في ذمّ تتبّع عيوب الناس وكشف عوراتهم) . ۲۱
«واعف عن توبيخي بكرم وجهك» من وبّخه توبيخا ؛ أي لامه وعذله وأنّبه وهدّده وعيّره.
في هذه البنود تلويح إلى الصفات الحميدة الإلهيّة الّتي ينبغي أن يتّصف بها الإنسان من الفضل الوسيع والحلم العظيم وقطع الكرم لأجل إساءة الشخص ، والستر على عيوب الناس والغضّ عن التوبيخ والعذل.
1.ما بين القوسين أثبتناه من الإقبال .
2.الفتح : ۶ .
3.فصّلت : ۲۳.
4.الحجرات : ۱۲ .
5.زمر : ۵۳ .
6.الزمر : ۵۳ .
7.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۱۲ .
8.الكافي : ج ۲ ص ۷۲ ، الاختصاص : ص ۲۲۷ ، عدّة الداعي : ص ۱۳۵ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۶ ص ۲۸ .
9.عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج ۱ ص ۲۲ .
10.الكافي : ج ۲ ص ۷۲.
11.الكافي : ج ۱ ص ۱۳۴ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۴ ص ۲۶۹ .
12.الإسراء : ۴۴.
13.الأنعام : ۱۰۳.
14.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۲۱ .
15.آل عمران : ۱۵۵ .
16.الصف : ۵ .
17.الروم : ۹ .
18.التوبة : ۷۷ .
19.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۵۰ .
20.المصدر السابق : الدعاء ۴۷ .
21.اُنظر : سفينة البحار : ج ۶. «عيب».