173
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي

۰.فَوَعِزَّتِكَ لَوِ انتَهَرتَني ما بَرِحتُ مِن بابِكَ ، ولا كَفَفتُ عَن تَمَلُّقِكَ«287 »لِما أُلهِمَ قَلبي ۱ مِنَ المَعرِفَةِ بِكَرَمِكَ وسَعَةِ رَحمَتِكَ «288 » إلى مَن يَذهَبُ العَبدُ إلّا إلى مَولاهُ «289 »وإلى مَن يَلتَجِئُ المَخلوقُ إلّا إلى خالِقِهِ ؟ «290 »إلهي لَو قَرَنتَني بِالأَصفادِ «291 »ومَنَعتَني سَيبَكَ ۲ مِن بَينِ الأَشهادِ «292 »ودَلَلتَ عَلى فَضائِحي عُيونَ العِبادِ «293 »وأمَرتَ بي إلَى النّارِ«294 »وحُلتَ بَيني وبَينَ الأَبرارِ «295 » ما قَطَعتُ رَجائي مِنكَ«296 »وما صَرَفتُ تَأميلي لِلعَفوِ عَنكَ «297 » ولا خَرَجَ حُبُّكَ مِن قَلبي «298 » أنَا لا أنسى أيادِيَكَ عِندي وسِترَكَ عَلَيَ في دارِ الدُّنيا «299 »

«فوعزّتك لو انتهرتني» العزّة بالكسر اسم بمعنى الغلبة في المعازّة ، قيل : العزّة غير الكبر ، فالعزّة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها ووضعها في منزلتها ، كما أنّ الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها ، وربّما استعيرت العزّة للحميّة والأنفة المذمومة ، ومنه قوله تعالى : «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه َ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِْثْمِ »۳ . ۴
قال الراغب : «العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب... قال : «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه ِِ جَمِيعاً » ، ۵ قال : «وَللّه ِِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » ، ۶«سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ » ، ۷ فقد يُمدح بالعزّة تارةً كما ترى ، ويُذمّ بها تارةً كعزّة الكفّار ، قال : «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ » ، ۸ ووجه ذلك أنّ العزّة الّتي للّه ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية الّتي هي العزّة الحقيقية ، والعزّة الّتي للكفّار هي التعزّز ، وهو في الحقيقة ذلّ» . ۹
«لو انتهرتني» ، من نهرته نهرا من باب نفع ، وانتهرته زجرته.
«ما برحت من بابك» برح يبرح ، من باب تعب براحا زال من مكانه ، ومنه قيل للّيلة الماضية البارحة.
أي اُقسم بعزّتك الّتي بها أعززت رسولك والمؤمنين ولا عزّة إلاّ عزّتك ومنك لو زجرتني وطردتني من بابك ما برحت وما زلت عن بابك.
«ولا كففت عن تملّقك» الملق من ملقت له ، أي تودّدته من باب تعب ، والودّ واللّطف الشديد ، أي أصرّ إصرارا متواليا متواصلاً متودّدا ، وفي النهاية : «أصل الإملاق الإنفاق ، يقال : ملق ما معه إملاقا وملقه ملقا ، إذا أخرجه من يده ولم يحبسه ، والفقر تابع لذلك ، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبّب حتّى صار به أشهر ...» ۱۰ ، وفيه : «ليس من خلق المؤمن الملق» ، هو بالتحريك الزيادة في التودّد والدعاء والتضرّع فوق ما ينبغي.
السؤال من الناس مذموم ، والملق أيضا مذموم ، والسؤال من اللّه تعالى مندوب ، والملق أيضا كذلك ، كما أنّ السؤال عن العلم مطلوب والملق في طلب رضا الوالدين.
قال رجل للنبيّ صلى الله عليه و آله : علّمني عملاً لا يحال بينه وبين الجنّة ، قال : «تغضب ولا تسأل ، وارض للناس ما ترضى لنفسك» . ۱۱
عن الرضا عليه السلام ، عن جدّه صلى الله عليه و آله ، قال : «اتّخذ اللّه عزّ وجلّ إبراهيم عليه السلام خليلاً ؛ لأنّه لم يردّ أحدا ولم يسأل أحدا غير اللّه عزّ وجلّ» . ۱۲
«من سأل من غير فقر فإنّما يأكل الجمر» . ۱۳
«لا تسألوهم فتكلّفونا قضاء حوائجهم يوم القيامة» . ۱۴
«ما من عبد يسأل من غير حاجة فيموت حتّى يحوجه اللّه إليها ويثبّت اللّه له بها النار» . ۱۵
«من سأل الناس وعنده قوت ثلاثة أيّامٍ ، لقي اللّه يوم يلقاه وليس في وجهه لحم» . ۱۶
هذا كلّه في السؤال عن الخلق ، وأمّا من اللّه تعالى أو السؤال عن العلم في الدنيا ، وكذلك طلب مرضاة الوالدين ، فهذا كلّه مطلوب عن اللّه تعالى.
عن الباقر عليه السلام : «ليس من أخلاق المؤمن الملق والحسد إلاّ في طلب العلم» . ۱۷
عن النبي صلى الله عليه و آله : «ليس من أخلاق المؤمن الملق إلّا في طلب العلم» . ۱۸
«لما ألهم قلبي من المعرفة بكرمك» الإلهام : الإلقاء في الروع ، ويختصّ ذلك بما كان من جهة اللّه تعالى وجهة الملأ الأعلى ، وألهمه اللّه ؛ أي لقّنه إيّاه ، قال سبحانه : «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » . ۱۹
أي ألقى في قلبي من المعرفة بكرمك ، ولأجل ذلك لا أكفّ عن تملّقك ، وهذا الإلقاء قد يكون من جهة الشعور العقلي ، كما هو الظاهر في الآية الكريمة ، وقد يكون من جهة الملك ويسمّى الحدث ، وقد يكون من جهة أُخرى من جهته تعالى ، كما في الحديث : «أُلقي في روعي» . ۲۰ ومن للتبعيض ، أي ألهم قلبي بعض من معرفتك ، إشارة إلى أنّ معرفته بكرمه تعالى معرفة قليلة لا كاملة . هذا الدليل الأوّل لعدم الكفّ .
«إلى من يذهب العبد إلّا إلى مولاه» يعني الثانية من علّة عدم الكفّ أنّ العبد لا يذهب ولا يراجع إلاّ إلى مولاه ، والعبودية إظهار التذلّل ، ولعلّ المراد هنا الإشارة إلى المعهود المتعارف من معنى العبدالذي يشتري وأنّه وما بيده هو لمولاه، ولا يجوز له المخالفة لمولاه، بل له أن يطيعه في كلّ ما يأمره وينهاه، وإذا خالفه يجب عليه الرجوع إليه طلب قبوله وعفوه.
«إلى من يلتجئ المخلوق إلّا إلى خالقه ؟» هذا الثالث من دليل عدم الكفّ عن التملّق ، يعني أُريد الترقّي في وجه الرجوع إليه والإصرار في طلب العفو . استدل أوّلاً : بأنّه تعالى كريم يعطي ويعطي ، ويعطي مع السؤال ولا يردّ السائل ، بل يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّنا منه ورحمة . وثانيا : بأنّه عبد خالف مولاه وعصاه ، يجب عليه الرجوع إليه فقط ولا غافر له سواه . وثالثا : إنّه مخلوقه تعالى ، وإنّ وجوده منه ، ولا حول ولا قوّة له إلّا به ، ولا يرجع ولا يلتجئ المخلوق إلّا إلى خالقه ، وهذه الجملة استفهام تقريري ، أي أنّ رجوع المخلوق إلّا إلى خالقه أمر واضح لا سترة عليه ولا ريب فيه.
«إلهي لو قرنتني بالأصفاد» قرنه : أي شدّه ، من قرن الشيء بالشيء شدّه ، والصفد : الوثاق ، قال سبحانه : «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَْصْفادِ » ، ۲۱ وقال عزّ وجلّ : «وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَْصْفادِ » . ۲۲ يعني ياإلهي لو قرنتني بالوثاق كالمجرمين أو معهم .
«ومنعتني سيبك من بين الأشهاد» السيب : العطاء والأشهاد جمع شاهد ، يقول سبحانه : «وَيَقُولُ الأَْشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ » ، ۲۳ أي منعتني عطاءك من بين الأشهاد أي الحاضرين ، لعلّ المراد هو أن يعطي كلّ الحاضرين ويمنعه .
«دللت على فضائحي عيون العباد» أي رفعت الستر الذي سترت بها سيّئاتي وذنوبي في الدنيا، ودللت العيون على مشاهدة عيوبي، وهذا بعد رفع الستر ، أي وجّهت عيون الناس لمشاهدة عيوبي حتّى لم يبق أحد غافلاً ولا ذاهلاً عن النظر، و عرّفت كلّهم بما ارتكبت وجنيت.
«وأمرت بي إلى النار» بعد أن قرنتني بالأصفاد ، ومنعتني سيبك ، ثمّ فضحتني بين العباد البرّ والفاجر والقريب والبعيد الّذين كنت أكتم عنهم عيوبي ، ثمّ أمرتني إلى النار.
«وحلت بيني وبين الأبرار» الأبرار : جمع البرّ ، من برّ والده ، أي أحسن الطاعة ورفق به وتحرّى محابّه ، وتوقّى مكارهه ، ولعلّ الترتيب الذكري تدلّ على الترتيب في الشدّة والصعوبة ، وآخرها مفارقة الأبرار ، كما في دعاء كميل : «فلئن صيّرتني للعقوبات مع أعدائك ، وجمعت بيني وبين أهل بلائك ، وفرّقت بيني وبين أحبّائك وأوليائك ، فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك...» ، هذا بيان لأنواع العقوبات المرتّبة على المعاصي يوم القيامة وجعلها خمسة أنواع.
«ما قطعت رجائي منك وما صرفت تأميلي للعفو عنك» بيان لأُمور يلزم العبد المنعم عليه حينئذٍ بعد معرفته للّه تعالى :
الأوّل : عدم قطع الرجاء عنه سبحانه ، فإنّه بعدما عرفه تعالى بأوصافه الجميلة يرجو أيضا كرمه وعفوه وصفحه .
الثاني : لا يقطع ولا يصرف أمله عنه تعالى ، فإنّه سبحانه موضع آمال عبده مع قدرته وكرمه .
الثالث : «ولا خرج حبّك من قلبي» يعني لا يسلب هذه العقوبات حبّه عن قلبه ، وفي دعاء عرفة من الصحيفة : «ولا تمنحني بما لا طاقة لي به ، فتبهطنيممّا تحمّلينه من فضل محبّتك» ، ولعلّ ذلك يعرف من حبّ الأُمّ لولدها ، حيث لا يخرج حبّه عن قلبها بما يصدر منه من سوء العشرة معها ، أو من حبّ شخص لمن يعشقه ، حيث لا يسلب عنه الحبّ بسوء ما يفعله المعشوق ، وعلى كلّ يشير إلى علّة عدم خروج حبّه تعالى من قلبه بقوله :
«أنا لا أنسى أياديك عندي» والأيادي جمع اليد ، وأكثر استعمال الأيادي في يد النعمة ، أي لا أنسى نعمتك وفضلك عندي ، وهذا صار سببا لعدم قطع الرجاء وعدم صرف التأميل عنه وعدم خروج حبّه من قلبه.
«وسترك عليّ في دار الدنيا» ، وعدم تفضيحه فيها.

1.زاد في الإقبال هنا : «يا سيّدي» .

2.السَّيب : العطاء (القاموس المحيط : ج ۱ ص ۸۴) .

3.البقرة : ۲۰۶ .

4.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۳۳ .

5.النساء : ۱۳۹ .

6.المنافقون : ۸ .

7.الصافات : ۱۸۰ .

8.ص : ۲ .

9.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۳۲ .

10.النهاية : ج ۴ ص ۳۵۷ .

11.الأمالي للطوسي : ص ۵۰۸ ، بحار الأنوار : ج ۷۰ ص ۲۶۴ .

12.علل الشرائع : ج ۱ ص ۳۴ ، بحار الأنوار : ج ۱۲ ص ۴ .

13.عدّة الداعي : ص ۸۹ ، مسند ابن حنبل : ج ۴ ص ۱۶۵ ، صحيح ابن خزيمة : ج ۴ ص ۱۰۰ ، المعجم الكبير : ج ۴ ص ۱۵ ، كنز العمّال : ج ۶ ص ۵۰۳ ح ۱۶۷۲۹ .

14.علل الشرائع : ج ۲ ص ۵۶۴ ، بحار الأنوار : ج ۸ ص ۵۵ .

15.الكافي : ج ۴ ص ۱۹ ، ثواب الأعمال : ص ۲۷۶ ، بحار الأنوار : ج ۹۳ ص ۱۵۴ .

16.ثواب الأعمال : ص ۲۷۶ ، بحار الأنوار : ج ۷ ص ۲۲۲ .

17.دعائم الإسلام : ج ۱ ص ۸۳ ، تحف العقول : ص ۲۹۷ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷۵ ص ۱۷۷ .

18.عدّة الداعي : ص ۷۱ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۲ ص ۴۵ .

19.الشمس : ۸ .

20.اُنظر : الإرشاد : ج ۲ ص ۲۳۰ ، المحاسن : ج ۲ ص ۵۰۲ ، روضة الواعظين : ص ۲۱۵ .

21.إبراهيم : ۴۹ .

22.ص : ۳۸ .

23.هود : ۱۸ .


شرح دعاء أبي حمزة الثمالي
172
  • نام منبع :
    شرح دعاء أبي حمزة الثمالي
    سایر پدیدآورندگان :
    هوشمند، مهدي
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    سازمان چاپ و نشر دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388
    نوبت چاپ :
    اول
تعداد بازدید : 465501
صفحه از 464
پرینت  ارسال به