۰.فَلا تُحرِقني بِالنّارِ وأنتَ مَوضِعُ أمَلي «372 » ولا تُسكِنِّي الهاوِيَةَ فَإِنَّكَ قُرَّةُ عَيني «373 » يا سَيِّدي لا تُكَذِّب ظَنّي بِإِحسانِكَ ومَعروفِكَ فَإِنَّكَ ثِقَتي ۱ «374 » ولا تَحرِمني ثَوابَكَ فَإِنَّكَ العارِفُ بِفَقري «375 »إلهي إن كانَ قَد دَنا أجَلي ولَم يُقَرِّبني مِنكَ عَمَلي ، فَقَد جَعَلتُ الِاعترافَ إلَيكَ بِذَنبي وَسائِلَ عِلَلي ۲ «376 »إلهي إن عَفَوتَ فَمَن أولى مِنكَ ۳ وإن عَذَّبتَ فَمَن أعدَلُ مِنكَ فِي الحُكمِ «377 »
«فلا تحرقني بالنار» قال سبحانه : «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ » ، ۴ أوعد اللّه عزّ وجلّ عباده العصاة الطغاة بعذاب الحريق يوم القيامة ، والمستفاد من الآيات أنّ عذاب الحريق يقع قبل يوم القيامة في البرزخ أيضا ، قال سبحانه : «النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ » ، ۵ بل حين قبض روح الكفّار ، قال عزّ وجلّ : «وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ » ، ۶ و «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ » ، ۷ و «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه ِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً » ، ۸ و «الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللّه َ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » . ۹
هذه كلّها ظاهرة في أنّ السؤال والجواب وضرب الوجوه والأدبار في حال التوفّي (والعياذ باللّه ) ، وكذا الآيات المباركة في آخر سورة الواقعة.
يسأل اللّه سبحانه ألّا يحرقه بالنار في حين التوفّي وفي البرزخ ويوم القيامة ، وقد أنذر اللّه سبحانه عباده بالنار في القرآن الكريم وكرّره قريبا من مئة وخمسين مرّة ، اللّهمّ إنّا نعوذ بك من النار ومن مجاورة الكفّار.
«وأنت موضع أملي» كلّ آمالي عندك وبيدك فلا تخيّب أملي . «ولا تسكنّي الهاوية» السكون : ثبوت الشيء بعد تحرّك ، ويستعمل في الاستيطان ، واسم المكان مسكن والجمع مساكن. ومن الثاني يقال : أسكنته ، نحو قوله تعالى : «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي » . ۱۰ والمعنى لا تجعل محلّ سكوني وموطني الهاوية وهي النار ، قال عزّ وجلّ : «وَأَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ * فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ * وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ * نارٌ حامِيَةٌ »۱۱
القارعة.
«فإنّك قرّة عيني» قرّت عينه تقرّ : سرّت ، وقيل لمن يسرّ به : قرّة عين ، قيل : أصله من القرّ أي البرد ، فقرّت عينه قيل معناه بردت فصحّت ، قيل : بل لأنّ للسرور دمعة باردة قارّة وللحزن دمعة حارّة ، ولذلك يُقال لمن يُدعى عليه أسخن اللّه عينه ، وقيل : هو من القرار . والمعنى أعطاه اللّه ما تسكن به عينه فلا يطمح إلى غيره ، ۱۲ أو أنامها اللازم للسكون ، أي لا تسكنّي الهاوية حال كوني محبّا لك وأنت ما تسرّ به نفسي وتقرّ به عيني.
«لا تكذّب ظنّي بإحسانك» الظنّ اسم لما يحصل عن أمارة ، ومتى قوّيت أدّت إلى العلم ، ومتى ضعفت جدّا لم يتجاوز حدّ التوهّم ، ونعبّر عنه بالفارسية «گمان» ، واستعمل في موارد مكان الاعتقاد أو العلم بالقرينة ، قال الراغب : «ومتى قوي أو تصوّر تصوّر القوي استُعمل معه أنّ المشدّدة وأن المخفّفة منها ، ومتى ضعف استُعمل أنّ وأن المختصّة بالمعدومين» ۱۳ والمراد هنا العلم بإحسانه تعالى لعباده ، كما في دعاء كميل : «أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها ، هيهات ما ذلك الّظنّ بك» ، أو الظنّ بشمول إحسانه له.
«ومعروفك» تقدّم معناه آنفا . «فإنّك ثقتي» تعليل لقوله عليه السلام : «لا تكذّب ظنّي» أي لا تكذب ؛ لأنّك ثقتي ، من وثقت به أثق ثقةً ؛ سكنت إليه واعتمدت عليه ، مصدر بمعنى المفعول أي الموثوق به ، يستوي فيه الواحد والمثنّى والجمع ، وقد يجمع في الذكور والإناث فيقال ثقات.
«ولا تحرمني ثوابك» أي لا تمنعني ثوابك ، والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله ، فيسمّى الجزاء ثوابا تصوّرا أنّه هو ، ألم تر كيف جعل اللّه تعالى الجزاء نفس الفعل في قوله : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ » ، ۱۴ ولم يقل جزاءه ، والثواب : يقال في الخير والشرّ ، لكنّ الأكثر المتعارف في الخير ، والمراد هنا الخير والإحسان ، كما هو واضح ، والإضافة لبيان الثواب الذي يعطيه اللّه لعباده على أعمالهم ، ولعلّ فيها إشارة إلى كثرة الثواب تفضّلاً ، كما قال تعالى : «فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ » ، ۱۵«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » ، ۱۶ وقال تعالى : «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللّه ُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ » . ۱۷
وقد ذُكر لبعض الأعمال الحسنة ثواب كثيره جدّا ، سيّما في قضاء حوائج الإخوان وزيارتهم وزيارة الأئمّة عليهم السلام ، قال بعض المحقّقين : إنّ الأعمال الّتي ذُكر لها ثواب عظيم فقد تفحّصنا فعثرنا أنّها على الأعمال الّتي توجب الوحدة أو تؤكّدها ، لاسيّما في ولاية أهل البيت عليهم السلام وحفظها وتأكيدها ، والأعمال الّتي ذُكر لها عذاب عظيم أليم هي الأعمال الّتي توجب الفرقة أو تضادّ ولاية أهل البيت عليهم السلام أو توهنها أو تنافيها ، كما أنّ الثواب على الحسنات كلّها تفضّل من اللّه تعالى ، وسُمّيت جزاءً وثوابا تفضّلاً ؛ لأنّ العبد نفسه ملك للّه تعالى ، والحسنات الصادرة منه صدرت بحوله تعالى وقوّته وتوفيقه ، فلا يعقل الجزاء من المولى لعبده . نعم اللّه عزّ وجلّ قرّر أنّ الأعمال الحسنة هي للعبد وهو مالك يبيعه ، واللّه سبحانه يشتريه منه ويجزيه بأعماله ، «إِنَّ اللّه َ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » ، ۱۸
وتفضّل آخر وهو أنّ العبد عمل لنفسه ونفعه عائد إليه ، فإنّ اللّه تعالى لا يضرّه معصية من عصاه ولا ينفعه طاعة من أطاعه ، واللّه سبحانه غنيّ عن ذلك كلّه ، ومع ذلك أنّه يشتري منه ويثيبه ويجزيه بعمله ، فهو فضل على فضل.
يسأل اللّه سبحانه أن يثيبه ويعطيه ثوابه قائلاً : «فإنّك العارف بفقري» قال الراغب : «المعرفة والعرفان إدراك للشيء بتفكّر وتدبّر لأثره ؛ وهو أخصّ من العلم ، ويضادّه الإنكار ، ويقال : فلان يعرف اللّه ، ولا يقال : يعلم اللّه ، متعدّيا إلى مفعولٍ واحد ؛ لما كان معرفة البشر للّه هي بتدبّر آثاره دون إدراك ذاته ، ويقال : اللّه يعلم كذا ، ولا يقال : يعرف كذا ؛ لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصّل به بتفكّر» . ۱۹
أقول : هذا كلام غير صحيح ؛ لأنّ ذلك لا شاهد له ، وفي هذا الدعاء أطلق العارف على اللّه تعالى ، وفي الصحيفة : «سبحانه من... حكيم ما أعرفك» ، ۲۰ في أقرب الموارد : «المعرفة ـ بكسر الراء ـ : إدراك الشيء على ما هو عليه ، وهي مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم ، ولذلك يُسمّى الحقُّ بالعالم دون العارف ، وفي الكلّيات : والعلم يقال : لإدراك الكلّي أو المركّب ، والمعرفة تقال لإدراك الجزئي أو البسيط ، ولذلك يقال عرفت اللّه دون علمته» . ۲۱ وفي المجمع ذكر ما في الأقرب ، ۲۲ أي لا تحرمني ثوابك لأنّي فقير وإنّك عارف بفقري.
«إلهي إن كان قد دنا أجلي» الأجل : مدّة الشيء ووقته الذي يحّل فيه ، يقال ضربت له أجلاً أي إن كان قد دنى المدّة المضروبة لي أن أعيش في الدنيا ، أي مدّة حياتي ، قال سبحانه : «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّه ِ كِتاباً مُؤَجَّلاً » ، ۲۳ وقال : «وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّه ِ يَسِيرٌ » ، ۲۴ وقال عزّ وجلّ : «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللّه ُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها » ، ۲۵ إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.
وهنا بحث حول قوله تعالى : «ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ »۲۶ . ۲۷
«ولم يقرّبني منك عملي» ، القرب والبعد متقابلان ، ويكون في المكان والزمان والنسبة والخطوة والرعاية والقدرة ، فمن الأوّل : «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » ، ۲۸ ومن الثاني : «اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ » ، ۲۹ ومن الثالث : «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى » ، ۳۰ ومن الرابع : «والْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ » ، ۳۱ و «فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ »۳۲ (وهو المكان والمنزلة) ، ومن الخامس : «إِنَّ رَحْمَتَ اللّه ِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » ، ۳۳ و «فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ » ، ۳۴ ومن السادس : «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ »۳۵ (راجع الراغب) . ۳۶
والمراد هنا الرابع ، أي وإن كان قد دنا ارتحالي من الدنيا إلى الآخرة ، ولم يقرّبني منك عملي حتّى يكون لي عندك مكانة ومنزلة ويصير موتي كما قال سبحانه : «فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ »۳۷
روحا وريحانا وجنّة نعيم ورجوعا إلى الربّ تعالى راضيةً مرضيّة ودخولاً في عباده وجنّته كما قال تعالى : «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي » . ۳۸
«فقد جعلت الاعتراف إليك بذنبي» من اعترف إليه أي أخبره باسمه وشأنه ، واعترف إليه بذنبه أي أخبره وعرّفه بما صنع وارتكب ، أي مع عدم قربي منك فقد جعلت الاعتراف إليك بذنبي.
«وسائل عللي» الوسائل جمع الوسيلة وهو ما يُتقرّب به إلى الغير ، والعلل جمع العلّة وهي الحدث يشغل صاحبه عن وجهه ، كأنّ تلك العلّة صارت شغلاً ثانيا منعه عن شغله الأوّل ، أي يكون هذه وسيلة متقرّبة رافعة عوارض العلل المانعة عن القرب .
«إلهي إن عفوت» وصفحت وتركت العقوبة مع استحقاقي وأعرضت عن مؤاخذتي ؛ قال الراغب : «عفوت عنه : قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه» . ۳۹
«فمن أولى منك» بالعفو والصفح؟ «وإن عذّبت» فذاك عدل ، «فمن أعدل منك في الحكم؟»
1.زاد في الإقبال هنا : «ورجائي» .
2.في البلد الأمين : «عملي» .
3.زاد في المصباح للكفعمي هنا : «بالعفو» .
4.الأنفال : ۵۰ ، الحج : ۲۲.
5.المؤمن : ۴۷ .
6.الأنفال : ۵۰ .
7.محمّد صلى الله عليه و آله : ۲۸ .
8.النساء : ۹۷ .
9.النحل : ۲۸ ـ ۲۹ .
10.إبراهيم : ۳۷.
11.القارعة : ۸ ـ ۱۱ .
12.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۹۸ .
13.المصدر السابق : ص ۳۱۷.
14.الزلزلة : ۷.
15.سبأ : ۳۷.
16.الأنعام : ۱۶۰.
17.البقرة : ۲۶۱.
18.التوبة : ۱۱۱.
19.مفردات ألفاظ القرآن : ۳۳۱.
20.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۴۷.
21.أقرب الموارد : ج ۳ ص ۵۲۶ .
22.اُنظر : مجمع البحرين : ج ۳ ص ۱۶۲ .
23.آل عمران : ۱۴۵.
24.فاطر : ۱۱.
25.المنافقون : ۱۱.
26.الأنعام : ۲ .
27.اُنظر : مجمع البحرين : ج ۵ ص ۱۳۶ وما بعدها ، وج ۴ ص ۹۲ ، والميزان في تفسير القرآن : ج ۷ ص ۵ وما بعدها .
28.البقرة : ۳۵.
29.الأنبياء : ۱.
30.النساء : ۸ .
31.النساء : ۱۷۲ .
32.الواقعة : ۸۸ .
33.الأعراف : ۵۶ .
34.البقرة : ۱۸۶ .
35.ق : ۱۶ .
36.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۹۸ ـ ۳۹۹.
37.الواقعة : ۸۸ ـ ۸۹ .
38.الفجر : ۲۷ ـ ۳۰ .
39.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۳۹ .